المجتمع : عقد الاجتماعي جديد أم توغل ليبرالي ؟
في ظل التحولات الاجتماعية والقانونية التي يشهدها المغرب، والتي تشمل إصلاحات مرتقبة في القوانين الجنائية والمدنية، ومدونة الأسرة، والقوانين المؤطرة لحرية التعبير، يبرز السؤال حول ضرورة إعادة النظر في العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، خاصة و أن بعض الحالات، من هنا و هناك، أصبحت تضغط أكثر من أي وقت سبق لفتح النقاش حول حدود تحرك الأفراد داخل المجتمع و الفضاءات الافتراضية.
إن مفهوم العقد الاجتماعي، الذي تبلور عبر الفكر الفلسفي الغربي، يحمل في طياته إمكانيات كبيرة لفهم التحديات القيمية والمفاهيم الناشئة في المجتمع المغربي، لإيجاد حلول تعزز التماسك والرقي الاجتماعي.نسعى إلى تسليط الضوء على هذا المفهوم، مستلهمين آراء فلسفية كلاسيكية، مع محاولة ربطها بالواقع المغربي الراهن، في إطار نهج الحلول الذي اخترناه أن يكون أساسا لخطنا التحريري.
يفترض العقد الاجتماعي كمفهوم فلسفي أن الأفراد يتفقون ضمنيًا أو صراحة على التنازل عن جزء من حرياتهم الفردية للدولة أو المجتمع، مقابل ضمان الحماية والعدالة والاستقرار. هذا المفهوم تبلور في القرنين السابع عشر والثامن عشر على يد فلاسفة مثل توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، الذين قدموا تصورات مختلفة لهذا العقد.
توماس هوبز: في كتابه “الليفياثان”، يرى أن الحياة في الحالة الطبيعية هي “وحشية وقصيرة” بسبب الصراعات البينية. لذا، يتنازل الأفراد عن حرياتهم لسلطة مركزية قوية (الدولة) تضمن الأمن والنظام. هذا التصور يركز على الاستقرار، لكنه قد يبرر سلطة مطلقة إن لم نقل أنه يفتح الباب للديكتاتورية.
في حين يقدم جون لوك في “رسالتين في الحكومة”، رؤية أكثر ليبرالية، حيث يرى أن العقد الاجتماعي يهدف إلى حماية الحقوق الطبيعية (الحياة، الحرية، المِلكية). إذا فشلت الدولة في ذلك، يحق للشعب تغييرها.
جان جاك روسو بدوره في كتاب “العقد الاجتماعي”، يؤكد أن العقد يقوم على “الإرادة العامة”، حيث يشارك الأفراد في صياغة القوانين التي تحكمهم، مما يضمن الحرية والمساواة. لكنه يحذر من تحويل هذه الإرادة إلى مصالح خاصة لفئة بعينها.
هذه التصورات، رغم اختلافها، تشترك في فكرة أن العقد الاجتماعي هو أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية وتحقيق التوازن بين الحرية والنظام.
في الواقع المغربي الذي أصبحت تطغى عليه ازدواجية في المعايير تطفو بين الفينة و الأخرى، أصبحت الكثير من الأصوات الهامسة تنادي بعقد جديد، حيث يعيش المغرب اليوم مرحلة مفصلية تتسم بتحولات قيمية واجتماعية عميقة: إصلاحات قوانين الأسرة، التي تهدف إلى تعزيز المساواة بين الجنسين، تواجه نقاشات حول التوازن بين القيم التقليدية والحداثة. كذلك، تعديلات القوانين الجنائية والمدنية تثير تساؤلات حول العدالة والحريات الفردية,أما قوانين الصحافة والنشر، فتطرح قضايا حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية.
هذه التحولات، إلى جانب ظهور مفاهيم ناشئة مثل الهوية الرقمية، وحقوق الأقليات، والعدالة البيئية، تفرض إعادة النظر في القواعد التي تربط الفرد بالمجتمع والدولة.
في هذا السياق، يمكن أن يشكل تجديد العقد الاجتماعي أداة لمواجهة هذه التحديات. على سبيل المثال، إذا استلهمنا رؤية روسو، فإن تعزيز المشاركة المجتمعية في العمل السياسي و صياغة القوانين يمكن أن يضمن قبولها واستدامتها. ففي المغرب، النقاشات حول إصلاح مدونة الأسرة تتطلب حوارًا وطنيًا شاملًا يعكس “الإرادة العامة” كما أراد لذلك الملك، مع مراعاة التنوع الثقافي والديني.
من جهة أخرى، فكرة لوك حول حماية الحقوق الطبيعية تنطبق على ضرورة ضمان حرية التعبير في قوانين حرية التعبير، مع وضع آليات تحول دون استغلال هذه الحرية أو تقويد الصحافة للإضرار بالمفاهيم و القيم المجتمعية.
من هنا تبرز تحديات وفرص صياغة عقد اجتماعي جديد رغم الأهمية الراهنة، حيث لا تزال الأغلبية في مواجهة تيارات الأيديولوجية و الاستقطاب، إن تطبيق عقد واضح هنا في السياق المغربي يواجه تحديات. أولها هو الاستقطاب بين التيارات التقليدية والحداثية، مما يصعب التوصل إلى توافق. كما تبرز تفاوتات في مستويات الوعي والمشاركة المدنية، مما يحد من إشراك كافة شرائح المجتمع. لأن التحديات الاقتصادية، مثل البطالة والفقر، تجعل الأولويات المادية تطغى على النقاشات القيمية و التقدمية.
لكن كل هذه التحديات التي تبدوا معقدة تحمل في طياتها فرصًا. فالمغرب يمتلك تجربة غنية في الحوار الوطني، كما في لجنة الإنصاف والمصالحة أو اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي. حيث يمكن الاستفادة منها كقواعد للانطلاق حول حوار شامل حول عقد اجتماعي جديد، يشمل الفاعلين السياسيين، والمجتمع المدني، والشباب، والنساء، والأقليات. كما أن الإصلاحات القانونية الحالية تمثل فرصة لتكريس مبادئ العدالة والمساواة، التي هي جوهر أي عقد اجتماعي.
كما يمكن للإعلام أن يلعب دورًا حيويًا في تثقيف المجتمع حول مفهوم العقد الاجتماعي. من خلال تقديم تقارير استقصائية، وتنظيم نقاشات تلفزيونية، ونشر مقالات تحليلية، يمكن للصحافة أن تساهم في توعية المواطنين بحقوقهم وواجباتهم، وتشجيعهم على المشاركة في صياغة رؤية مشتركة للمستقبل. على سبيل المثال، يمكن للصحافة تسليط الضوء على تجارب دول أخرى نجحت في إعادة صياغة عقدها الاجتماعي.
منظور نحو عقد اجتماعي مغربي متجدد.
إن المغرب اليوم أمام فرصة تاريخية لصياغة عقد اجتماعي جديد يعكس طموحات الشعب ويستجيب لتحديات العصر. يمكننا اليوم بناء نموذج يجمع بين احترام الهوية الثقافية والدينية، وتعزيز الحريات الفردية، وضمان العدالة الاجتماعية. هذا العقد لن يتحقق إلا بحوار وطني شامل، ومشاركة فعالة من كافة شرائح المجتمع، مدعومة بدور بنّاء للإعلام. في نهاية المطاف، العقد الاجتماعي ليس مجرد نظرية فلسفية، بل هو خارطة طريق للمجتمع الذي نريد : متماسك يزدهر بالعدل والمساواة والرقي.
بهذا النهج، يمكن للمغرب أن يضع أسسًا متينة لمستقبل يحقق طموحات أبنائه، ويجعل من التحولات الحالية فرصة للتقدم بدلاً من الانقسام.
Comments ( 0 )