شرّير أو خيِّر ،فعّال أو مُنفعل ..
قصة البحث عن الإنسان !
ما هي طبيعة الإنسان ؟
سؤال قلما نفكر فيه مع أنه يمثل قضية مهمة جدا ..! مع الموجة التي تنادي ببناء الإنسان.
الواقع أن البحث في طبيعة هذا الإنسان الذي كان ولا يزال أكثر جدلا ،شغل الفلاسفة و المفكرين عبر العصور ،بين من يعتبر أن الإنسان عدواني و شهواني و يعمل ضد المجتمع, كذلك يرى سيغموند فرويد أنه وحش كاسر ،طبيعته تتكون من عوامل عضوية تخلق لديه توترات شديدة تدفعه للتخلص منها كالدوافع الجنسية و العدوانية التي تلحق الأذى بالآخرين (الجريمة) .
غير أن هناك من اعتبر الإنسان خيِّرا بطبعه ،و أن كل إنسان يأتي إلى الوجود كاملا ،لكن المجتمع يفسده كما يشرح ذلك الفيلسوف روسو في كتابه “اميل” الذي يُستنتج منه أن الإنسان خيِّر بالفعل.
و بالمثل يؤكد ذلك علماء النفس اللذين يؤكدون أن الإنسان خيِّر ،يكمن لديه الدافع إلى أن يعيش في صحة نفسية و توافق ،و يعمل هذا المعطى على تحقيق ذات الإنسان بطريقة آلية ،و يصير الإنسان مؤذيا و عدوانيا فقط حين تنتزع منه حريته، وحينما لا يعامل بثقة و الاحترام.
تتعدد التعاريف حول الإنسان ،فكل مفكر و باحث يجد في التعاريف السابقة قصوراً ،كما أنها تحتمل الصواب و الخطأ الذي يقود بدوره إلى تعريف جديد ،ذلك ان منظورنا للإنسان يعتمد على خبرتنا به و تجاربنا معه.
ذلك أن لكل منا تصورا أو نظرية عن الإنسان : عن طبيعته و خصائصه التي يتميز بها ،وصل إليها عن طريق جهد متعمد من الملاحظة و الدراسة و التحليل ،نتيجة خبرته بالافراد الذين يتعامل معهم في الحياة الدنيا.
من هنا و هذا الاهم في مقالة اليوم هو أن يعي الإنسان ذاته اولا و أن يفهم خصائصه التي تميز بها و أن يتمثل القول بداخلنا كما قال سقراط «اعرف نفسك بنفسك » مضيفاً «اعرف الإنسان بنفسك».
فعّال ام منفعل !؟
ما مدى فاعلية الإنسان في التنشئة الاجتماعية و في البناء ،حتى نبني انسان اليوم ..؟!
هل الإنسان سلبي ام ايجابي تجاه الأحداث التي تحيط به !؟
(الملاحظة المباشرة للإنسان لا تساعد على الإجابة عن هذا السؤال).
– فبعض الناس إيجابي فعّال يؤثر في من حوله, وما حوله من أحداث.
-و البعض الآخر يتأثر بالاحداث و يخضع لها.
فكلما تعرضت تنشئة الإنسان لتأثير ضروف معينة اكتسب الإيجابية و الفاعلية في السلوك ،وبالمثل إذا نشأ في ظل ظروف أخرى صار سلبيا ، و هذا شأن دراسة التنشئة الاجتماعية التي تبحث في مثل هذه المواضيع.و هي ايظا مواضيع شقت صفوف العلماء و الباحثين بين من يرى الإنسان عند صرخته الاولى صفحة بيضاء ،و بذلك يكون سلبيا ،بكتسب محتواه و بنائه من خلال التأثير و ارتباطات الخبرة عليه؛ و من يرى في الإنسان مجرد مُستجيب حينما تؤثر عليه مثيرات معينة و هي النظرية التي كان لها تأثير كبير في التفكير السيكولوجي في انجلترا و الولايات المتحدة (نظرية لوك) و كان لها أثر بعيد في نظرية السلوك .
كما ان فاعلية الإنسان شغلت و ما زالت تشغل الفلاسفة و علماء النفس وكما كان موقف المفكرين منها أساساً لنظريات في السلوك الإنساني ،لازالت تسود و تؤثر في تصور الإنسان ليومنا هذا..و هي أساس للنزاع القائم بين المدرسة السلوكية و المدرسة الظاهرية (الفنومنولوجيا) الصراع الذي أنشأ قسم جديد في رابطة علم النفس اصطلح عليه علم النفس الفلسفي.
تقدم المدرستين القضايا التالية بحيث يمثل أحد طرفي القضية وجهة نظر و يمثل الطرف الآخر وجهة نظر أخرى:
1 يمكن فهم الإنسان من خلال سلوكه ، أو يمكن فهمه من خلال شعوره.
2 الإنسان قابلةللتنبؤ أو انسان غير قابل للتنبؤ.
3 الإنسان يحمل المعلومات أو الإنسان يخلق المعلومات.
4 يعيش الانسان في عالم موضوعي ، أو يعيش في عالم ذاتي.
5 الإنسان كائن عقلاني أو لا عقلاني.
6 كل إنسان يشبه الآخر أو كل إنسان فريد في ذاته.
7 الإنسان واقع أو إمكانية.
8 يمكن معرفة الإنسان بواسطة الأسلوب العلمي أو الإنسان هو أكثر مما نستطيع معرفته.
ليبقى كلا النموذجين مفيد و ذلك اعتمادا على المشكلة المدروسة.كما أن معالجة الموقف الإنساني في إطار نظرية معينة هو عمل ممتع عقليا، و لحن ممتع حين يعزف في الأروقة الاكاديمية و النقاشات البنائة ،لان الطبيعة الأصيلة للإنسان مميزة عن غيرها من المخلوقات.
من منظور أوسع:
أكثر التصورات العملية هو تصور الإنسان على أن لديه مجموعة من الإمكانيات Potentialités قابلة للتفتح و النمو ،امكانيات يمكن أن تصير واقعا إذا اتيحت لها الفرصة و الظروف، كما أنها يمكن ألا تتحقق،
العامل الحاسم في حياة الفرد هو أن تكتشف امكانياتك اولا،ثم تُنمي ثانيا. يتم اكتشاف هذه الإمكانيات و تنميتها عن طريق توفير ظروف معينة تيسر ذلك .
فتصورك على انك مجموعة من الإمكانيات يُتيح لك أن تصير اي شيء.يمكن أن تصير ملاكا رحيما أو شيطانا رجيما.فاذا كانت الامكانية تعني قدرتك على التصرف فسيترتب على ذلك أن لديك القدرة الكامنة على فعل الخير مثل القدرة الكامنة على فعل الشر.
الا ان اعتبار الإنسان لامكانياته يبقى على محك التحقيق أو الفشل ،فحين لا تتحقق هذه الإمكانيات فإن الوجود يضطرب ،تجاه الصحة أو المرض.
و قد ارتبط التصور الشائع لدور علم النفس بالمرض أكثر من الصحة ،اي دراسة المرضى أكثر من الاصحاء ،فالى عهد قريب لم يكن ليحضر علماء النفس للحفلات و اجتماعات الأصدقاء ،و كأنهم يقولون :لنحترس سيحللنا و يكتشف عللنا و عن عقدنا الكامنة في دخائل نفوسنا ،و كان علم النفس مرتبط بالمرض و لايدرس الا المشكلات ، حتى أن مقدار المعلومات المتوفرة لنا عن «المنحرف» و «القلق» و «العصابي» و «الغير متكيف» كثيرة و متوفرة بالمكتبات ،حتى وصلنا الى مقولة :ليس هناك شيء اسمه «الانسان السوي» .
و اصبحنا أمام فئتان من الناس ،اولئك اللذين يؤدي سلوكهم إلى نبذهم من المجتمع و عدم المشاركة ،و كأنه ليس هناك زاوية واحدة ننظر من خلالها إلى الإنسان إلا زاوية المرض و العلة ،فبعض الناس مريض إلى درجة الخطورة ،اما البعض الاخر فلا خطر منه، حتى أصبحنا وسط الخطر.
هام : هذه النظرة إلى الإنسان جعلت البحث في «فاعلية الإنسان» موضع التجاهل على مدى زمن طويل و خلقت جوا لا يستنبت الإنسان السوي.
و من ثم كان الاهتمام بالمرض و المعاناة بدلا من السواء و الصحة.
كذلك فإن نظريات الشخصية التي تحاول تفسير سلوك الإنسان من حيث بنائه (مم تتكون) و نموه و تعديله، نشأ بعضها اساسا من دراسة الحالات المرضية التي كانت تأتي إلى العيادات ، حتى اصبحنا بعدها نصف المراهق بحالة مرضية مثلاً.
لأن ادوات القياس النفسي كانت ناجحة في الكشف عن اظطراب السلوك ،اكثر من قدرتها على اكتشاف عوامل الفاعلية في السلوك و النجاح في تحقيق الأهداف ، مدفوعة في ذلك بلوبيات الأدوية و المسكنات و الانظمة و السياسات.
ليصبح بعدها التركيز على الجانب المرضي مؤديا إلى تجنبه أكثر من البحث عن طبيعة السواء و محاولة اكتسابه.
لن نحارب الأمية بالهدر المدرسي !؟ مثلاً
هذا التساؤل الممزوج بالدهشة طفى إلى السطح و لم يسلم هو كذلك من راكبي الأمواج الفكرية (الكوتشينغ و و ابطال الروايات و برامج المواهب الخارقة) ،بعد الاسراف في تفضيل الضعيف و المريض الذي اتجهت إليه الدراسات ، و إهمال القوي و الصحيح ،فلم تهتم الدراسات بضواهر مثل «السلوك الفعّال» و « الصحة النفسية» و «الحب» !؟
و هذا ما وجه جهود العلماء إلى البحث في الطبيعة النفسية :
– ما هي ؟
– ما هي سمات من يتمتع بها ؟
هناك مدخلات للإجابة على هذا السؤال ،اذ سلك العلماء طريقين في ذلك ،الاول إجرائي operational و الآخر مسلك تصوري conceptual.
المدخل الاجرائي Operational
درس خصائص الأفراد اللذين يتمتعون بصحة نفسية جيد و اللذين يحققون ذواتهم self-actualizing و اللذين اختارهم “ماسلو” على أساس اتفاق المصادر التاريخية أو الشعبية ،و وجدهم أنهم يتمتعون بالتلقائية ،و الاهتمام بالمشكلات ،و الحاجة إلى الخلوة،و الإستقلال ،و تقبل الذات و الآخرين و الطبيعة.
دراسة أخرى مماثلة أجراها”بارون” على مجموعة من طلاب الدراسات العليا استنتج من خلالها الخصائص التالية:التكامل الأخلاقي ،تكيف الفرد مع نفسه و مع الآخرين،
فقد درسوا الطيارين الناجحين، ووجدوا أنهم يتميزون :
بالتوجه الإيجابي، المنافسة، الدوافع القومية، العمل الجاد، القيام بمخاطر محسوبة،اختبار الإمكانيات و كذلك المرونة و التخيل.
كما ان دراسات أخرى توصلت ال مجموعة من العوامل التي يمكن وصف الشخصية السوية على أساسها:
_ الاتزان القائم على الضمير مقابل الاندفاعية التي لا تقوم على مبدأ.
_الاستقلال الذكي القائم على الابتكار ،في مقابل الاعتماد المُتبلد القائم على التفكير.
_الوجدان القائم على الحب في مقابل العداوة.
_التفاؤل الانبساطي المريح في مقابل التشاؤم القلق القائم على التمحور على الذات.
كما قامة دراسة أخرى على تقسيم هؤلاء الطلاب الاصحاء نفسياً على الدرجات التي حصلوا عليها في هذه التقديرات إلى ثلاث مجموعات :
الاولى تتمتع بصحة نفسية منخفضة و الثانية على صحة متوسطة و الثالثة على صحة نفسية مرتفعة :
_ الصحة النفسية المنخفضة:
تتميز بالرغبات الكثيرة و القوية متمركزة حول الذات ؛ مشاعر متناقضة بقوة تجاه الحياة ؛ علاقة مع الآخرين تتميز بأنها مخربة.
_الصحة النفسية المتوسطة: مسايرة اجتماعية اتكالية ؛ الاكتفاء بالقليل من السعادة و الكبرياء الصحي ؛ الرغبة و الشجاعة في الاستمرار في الحياة.
_ الصحة النفسية المرتفعة:
دافعية قوية نحو بناء حياة تتحقق فيها الذات ؛ شخصية متعدد الجوانب ؛ يسعد لشعوره بالعواطف القوية و يجد فيها الحياة عميقة و خصبة ؛ التفكير بوضوح و بنظرة بعيدة ؛ أصحابها أفراد متكاملون ؛ يتميزون بالأصالة الأخلاقية في دوافعهم و سلوكهم ؛ يحبون الآخرين و يسعى الآخرون إلى صحبتهم ؛ هم ايظا لهم مشكلات و لكن يتعاملون معها بكفاءة وفعالية.
المدخل التصوري Conceptual :
يقوم على افتراض مجموعة من المسلمات عن شخصية الإنسان السوي ،على أساس مجموعة من الخصائص: خصائص تختلف باختلاف المسلمات و من ثم وُجد عدد من التصورات و النماذج عن الشخصية السوية.
رغم الاختلاف في المصطلحات التي يستخدمها الباحثون و التي تحتاج إلى تفسير أكثر ،فبعض الباحثين يخلط بين الشخص «المتوسط» Average و «السوي» Normal و «المتكيف» Adjusted و «الفعّال» Effective و يعتبر البعض هذه الألفاظ مرادفات متشابهة الدلالة ،لكن حقيقة الأمر أن الشخص المتوسط هو شخص متخيل يحصل على تقدير متوسط في الخصائص المُقاسة في الإختبارات النفسية ، اما الشخص السوي فهو متكامل من ناحية الصحة النفسية ولا يختلف كثيرا عن المتوسط ، اما المُتكيف فهو اللذي يلائم بيئته و متطلباتها ، لكن يبقى الشخص الفعّال جامعا لكليهما ،فهو اللذي يحقق أهدافه.
قد يتبادر إلى الذهن أن الشخص الصحيح نفسياً هو الشخص المتوسط أو الشخص المتكيف ،لكن هذا التصور غير دقيق ،لان معنى الصحة النفسية لا يقتصر على مجرد الخلو من المرض ،لان الشخص الصحيح نفسياً لا يخلو من الصراع أيضاً ،فقد تظهر لديه بعض مظاهر المرض و الاضطراب و قد لوحظ أن الفرد الصحيح نفسيا يتميز بالتلقائية و الأصالة أي أنه يتميز بالابتكار.
كما أن بعض المبتكرين تظهر لديهم بعض علامات الانحراف النفسي ،و أن كانوا يتميزون بالتحكم الملائم في سلوكهم.
لكن بالمقابل هناك اتفاق بين النماذج المختلفة في وصف الشخص الصحيح نفسياً ،رغم تعقد الشخصية الإنسانية ،فان تعريف الشخص الصحيح نفسياً لا بد أن يرتكز على عدة محاور أهمها :
-التحكم في الذات
-المسؤلية الشخصية
-المسؤلية الاجتماعية
-الاهتمام الاجتماعي الديمقراطي
-قيم و معايير
-الاستقلال و إدراك الذات
-فلسفة شاملة للحياة
(عبرة للآخرين) (الابتكار) (واسع المعرفة) (خصب الخيال و مبتكر)
*الخصائص الموجودة بين الأقواس هي خصائص متضمنة و مستنتجة عن المدخل التصوري لدراسة الشخصية السوية و هي مصنفة إلى ثلاث فئات
_خصائص تتصل بالذات
_خصائص تتصل بعلاقة الذات بالخبرة.
_خصائص تتصل بعلاقة الذات بالآخرين.
خلاصة الشخص السوي من منظور شامل :
الشخص الصحيح نفسيا يكون منفتحا على خبرته ،مستقلا في إدراكه ،لديه من المهارات و القدرات للتعايش مع الواقع ،و قادر على التحكم في بيئته ،و في علاقته بالآخرين ،
الشخص الصحيح نفسياً يشعر نحو رفاقه من بني الانسان بالمسؤولية الإجتماعية ، و يهتم بها اهتماما ديمقراطياً ، فهو ذو نظرة عطوفة ، و علاقات دافئة ، وقادر على التواجد مع الآخرين.
Comments ( 0 )