الإصلاح يبدأ من محاربة الفساد… حين يتحول من شعار إلى مسؤولية
[الإصلاح لا يبدأ من القوانين، بل من ضمير كل إنسان يرفض الفساد في نفسه قبل أن يراه في غيره].
يتداول الناس في مختلف المناسبات مصطلحي الإصلاح والتنمية، لكنهما يظلان شعارين فارغين ما لم ينبني الإصلاح على اقتلاع جذور الفساد، لا مجرد التنديد به. وهنا يبرز السؤال الجوهري: من أين يبدأ هذا الفساد؟ وما هي امتداداته؟
إن الفساد ليس وليد اللحظة، بل نتاج سنوات طويلة من الممارسات المنحرفة التي مكنته من اكتساب مناعة قوية، حتى صار متجذرًا في مؤسساتنا ومجتمعاتنا، وتحول إلى عرش يتربع عليه المفلسون مهنياً وأخلاقياً واجتماعياً.
فالفساد لا يقتصر على الرشوة والاختلاس وخيانة الأمانة والغش، بل يتجسد أيضاً في التهاون والتقصير وعدم أداء العمل بجدية وإخلاص.
ولعل أخطر ما في الأمر أن الفساد لم يعد سلوكاً فردياً معزولاً، بل ثقافة مترسخة تسري في مكونات المجتمع. فليست الحكومة وحدها مسؤولة، بل نحن جميعاً شركاء في إنتاج هذا الواقع. من الذي يوصل الفاسدين إلى مواقع المسؤولية؟ أليس ذلك المواطن الذي يبيع صوته بثمن بخس؟ ومن الذي يغض الطرف عن الرشوة أو يتعامل معها كأمر عادي؟ أليس هو نفسه من يشكو تدهور الخدمات وضياع الحقوق؟
لقد أصبحنا أمام منظومة متشابكة، وليس في ذلك تعميم على الجميع، بل إن السبب الحقيقي يكمن في وجود بعض المواطنين الفاسدين، وإداريين فاسدين، وبرلمانيين فاسدين، ومسؤولين فاسدين… كلها لبنات في جدار واحد من الخراب الأخلاقي.
وفي المقابل، هناك أشخاص شرفاء يتعاملون بمنطق الشفافية والمهنية والمسؤولية، لكن غالباً ما تكمم أفواههم أو يطمس حضورهم. حتى غدت بيئتنا الإدارية والاجتماعية مستنقعاً يعج بالظلم وهضم الحقوق، ويكرس مبدأ القوة بدل العدالة، حيث يأكل القوي الضعيف.
وهنا يبرز الدور الحاسم لكل من التعليم والإعلام، فهما بمثابة مرآة تعكس صورة المجتمع، ويمتلكان القدرة على غرس القيم ومواجهة الانحراف. فالتعليم ليس مجرد تلقين للمعارف، إنما تربية على المواطنة والنزاهة والمسؤولية. حين تنتج مدارسنا جيلاً يؤمن بأن الغش خيانة، وأن الكفاءة أسمى من المحسوبية، نكون قد وضعنا حجر الأساس للإصلاح الحقيقي.
أما الإعلام، فهو السلاح الأخلاقي الذي يفضح الفساد ويكرس ثقافة الشفافية والمساءلة، بدل أن يتحول إلى أداة للتلميع أو التضليل. فحين يمارس الإعلام دوره بحرية ومسؤولية، ويزرع التعليم قيماً صلبة في النفوس، يصبح المجتمع محصناً من الداخل ضد كل مظاهر الفساد.
وإذا كنا نطمح إلى تحقيق إصلاح فعلي وشامل، يجب على كل شخص أن يحاسب نفسه أولاً ويغيرها. فالإصلاح لا يبدأ من فوق، بل من داخل الإنسان ذاته. لأن الإصلاح الصادق لا يولد من قرارات تفرض، بل من ضمائر تستيقظ.
إن الكل مشترك في الفساد كما هو مشترك في إمكانية الإصلاح، والإصلاح الحقيقي لا يولد إلا من الفرد نحو الجماعة، من ضمير حي، ومسؤول وخالص، ومواطن اختار أن يكون جزءاً من الحل لا من المشكلة.
Comments ( 0 )