التحولات الديموغرافية: من الانتعاش الحضري إلى الشيخوخة السياسة

التحولات الديموغرافية: من الانتعاش الحضري إلى الشيخوخة السياسة

 

 

 

 

في سياق التحديات السياسية الإجتماعية والاقتصادية التي يواجهها المغرب اليوم، برز الإحصاء العام للسكان والسكنى السنة الماضية، الذي نشرته المندوبية السامية للتخطيط ، كأداة حاسمة لفهم التحولات الديموغرافية التي تشكل أساس السياسات المستقبلية. هذا الإحصاء، الذي أجري بين 1 و30 سبتمبر 2024 ونشر نتائجه في 17 ديسمبر من العام نفسه، لا يقتصر على عد الأشخاص فحسب، بل يكشف عن ديناميكيات عميقة تؤثر على التنمية البشرية، الاقتصاد، والاستقرار الاجتماعي.

مع التركيز على أبرز معطيات نشرات الـمندوبية السامية، خاصة الأطلس الاجتماعي الديموغرافي الذي توصلت به المنظور بريس بداية هذا الأسبوع، تبرز التباينات الجغرافية والجندرية، و يبرز الإحصاء عبر تفاصيله، كيف أن المغرب ينتقل من نموذج ديموغرافي تقليدي يعتمد على النمو السريع إلى مرحلة انتقالية تتسم بالشيخوخة المبكرة، التراجع في المعدلات الخصوبة، والتحضر المتسارع.

هذه التحولات ليست مجرد أرقام؛ إنها تحديات سياسية تتطلب إصلاحات جذرية في التعليم، الصحة، والتشغيل، لتجنب “الفخ الديموغرافي” الذي يهدد الدول .

 

أبرز معطيات نشرة الـ HCP: رؤية شاملة للأطلس الاجتماعي الديموغرافي

 

يُعد الأطلس الاجتماعي الديموغرافي للمغرب، الذي توصلنا به في إطار متابعتنا لاستراتيجية نشر نتائج RGPH 2024، أداة بصرية وتحليلية فريدة تركز على المستوى الإقليمي (الأقاليم كوحدة بين الجهات والجماعات المحلية).

 

يعتمد على نظام المعلومات الجغرافية (GIS) لدمج البيانات الديموغرافية مع الخرائط الثيمية، مما يسمح بكشف التباينات الجغرافية، الريفية/الحضرية، والجندرية بدقة عالية. وفقاً للنشرة، تم اختيار مؤشرات رئيسية تغطي الديموغرافيا، القراءة والأمية، اللغات، النشاط الاقتصادي، الإعاقة، وظروف السكن، مع التركيز على الـ 75 إقليماً كوحدات أساسية للتحليل. هذا النهج يتجاوز الإحصاءات العامة ليكشف “الواقع الملموس” للتنمية البشرية، خاصة في المناطق الواسعة مثل الأقاليم أو الجهات، حيث تخفي الأرقام الإجمالية التباينات الحقيقية و السرعات المختلفة التنمية المجالية.

 

من أبرز المعطيات المُحينة في النشرة:

 

– السكان والنمو الديموغرافي: بلغ إجمالي السكان 36.828.330 نسمة في 1 سبتمبر 2024، بزيادة 2.980.088 نسمة عن 2014، أي معدل نمو سنوي متوسط 0,85% (انخفاض عن 1,25% بين 2004-2014). منهم 36.680.178 مغربياً و148.152 أجنبياً، مع زيادة الأجانب بنسبة 5,6% سنوياً. يبرز الأطلس التباين الجغرافي: الجهات الشمالية والوسطى (مثل الدار البيضاء-سطات) تساهم بـ86,2% من النمو الكلي، بينما الجنوب الشرقي يعاني من تباطؤ.

 

– التحضر والتوزيع الريفي/الحضري: وصل معدل التحضر إلى 62,8% (23.110.108 ساكن حضري)، بزيادة 2.677.669 عن 2014 (معدل نمو 1,24% سنوياً)، مقابل 37,2% ريفي (13.718.222 ساكن، نمو 0,22% فقط). الأطلس يظهر كيف أن سبع مدن كبرى (الدار البيضاء، الرباط، فاس، مراكش، طنجة، أكادير، وجدة) تستوعب 37,8% من السكان الحضريين، مما يعكس ضغطاً على الخدمات الحضرية وهجرة ريفية مستمرة.

 

– القراءة والأمية: انخفض معدل الأمية إلى 24,8% (من 32,2% في 2014)، مع تقدم ملحوظ في الريف (من 45% إلى 35%) والإناث (من 40% إلى 30%). المدة المتوسطة للدراسة للفئة 25+ بلغت 6,3 سنوات (زيادة عن 4,9 سنة). ومع ذلك، يبرز الأطلس فجوات جندرية: 91,9% يتحدثون الدارجة، 24,8% الأمازيغية (33,3% في الريف)، و0,8% الحسانية في الجنوب.

 

– النشاط الاقتصادي والتشغيل: انخفض معدل النشاط إلى 41,6% (من 47,6% في 2014)، مع ارتفاع البطالة إلى 12,5%، خاصة بين الشباب والنساء. يظهر الأطلس تبايناً إقليمياً: الجهات الصناعية مثل طنجة-تطوان تظهر نشاطاً أعلى، بينما الريف يعاني من معدلات منخفضة.

 

– الإعاقة وظروف السكن: انخفضت معدل الإعاقة إلى 4,8% (من 5,1%)، لكنها أعلى بين كبار السن (60+). أما السكن، فـ95% من المساكن متصلة بالكهرباء، 90% بالماء، و85% بالصرف الصحي، مع فجوات ريفية واضحة. يربط الأطلس هذه المؤشرات بالفقر متعدد الأبعاد، حيث يؤثر الوصول إلى الخدمات الأساسية على التنمية البشرية.

 

هذه المعطيات، المدعومة بخرائط تفاعلية عبر المنصة الإلكترونية للمندوبية، تكمل النتائج السابقة للـ HCP وتسمح بتحليل متداخل، مثل تأثير التعليم على الإعاقة أو التحضر على السكن.

 

التحولات الديموغرافية الرئيسية: بين الفرص والتحديات السياسية

 

يكشف RGPH 2024 عن تحولات ديموغرافية عميقة تعكس نجاح السياسات الاجتماعية لكنها تفرض تحديات سياسية ملحة.

أولاً، الانخفاض الحاد في النمو السكاني: منذ 1960، تضاعفت السكان ثلاث مرات (من 11 مليون إلى 36,8 مليون)، لكن المعدل السنوي انخفض إلى 0,85%، مما يشير إلى اكتمال “الانتقال الديموغرافي”. هذا التباطؤ مدفوع بانخفاض الخصوبة: متوسط الأطفال لكل امرأة انخفض إلى 2,2 (من 2,4 في 2014)، مع انخفاض سن الزواج الأول للنساء إلى 24,6 سنة، مما يعكس تغييراً في السلوكيات الاجتماعية. سياسياً، يعني ذلك حاجة ماسة لإصلاح نظام التقاعد، حيث يتوقع أن يصل عدد كبار السن (60+) إلى أكثر من 5 ملايين في 2024، مساهمين في “شيخوخة” السكان أسرع من المتوقع.

 

ثانياً، التحضر المتسارع كمحرك اقتصادي وسياسي: التحضر بلغ 62,8%، مع نمو حضري يفوق الريفي بست مرات. هذا التحول، الذي ساهم فيه الاستثمارات في المدن الكبرى، يعزز الاقتصاد (مثل الصناعة في طنجة)، لكنه يفاقم الضغط على البنية التحتية والسكن. الأطلس يظهر كيف أن 50% من النمو يرجع إلى خمس جهات فقط، مما يتطلب سياسات متوازنة لتقليل الهجرة الريفية وتعزيز التنمية المحلية، كما في برنامج “المغرب الأخضر” الذي يربط الزراعة بالسكان الريفيين (13,7 مليون).

 

ثالثاً، الفجوات الاجتماعية والجندرية: تحدٍّ سياسي للعدالة: الإحصاء يبرز تقدماً في التعليم (مدة دراسة 6,3 سنوات) والأمية (24,8%)، خاصة لدى النساء والريف، لكن النشاط الاقتصادي انخفض إلى 41,6%، مع بطالة 12,5% بين الشباب. الإعاقة (4,8%) أعلى بين النساء والريف، وتتداخل مع الفقر. سياسياً، يدعو هذا إلى تعزيز النهج الجندري في السياسات، كما في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لمواجهة التباينات الإقليمية (مثل الأمازيغية في الريف بنسبة 33%).

 

أخيراً، الآفاق المستقبلية والتوصيات السياسية: يتوقع نموذج الـ HCP أن يصل السكان إلى ذروته في 2038 (حوالي 38 مليون)، قبل ذلك بـ12 عاماً عن التنبؤات السابقة، بسبب الخصوبة المنخفضة والشيخوخة. هذا يفرض على الحكومة إصلاحات فورية: تعزيز التعليم المهني للشباب (60% من السكان تحت 30 عاماً)، دعم النساء في سوق العمل، واستثمار في الريف عبر GIS للتنمية المستهدفة. كما يبرز الأطلس دور الـ HCP في الرقمنة، حيث سمحت الخرائط الرقمية بتحليل دقيق حتى مستوى الدواوير والأحياء.

 

الصورة الأكبر:

 

 

 

يُعد احصاء 2024 مرآة للمغرب الجديد: نمو متوازن لكنه هش، يتطلب رؤية سياسية جريئة لتحويل التحديات الديموغرافية إلى فرص تنموية. كما يؤكد الأطلس، فإن فهم هذه التباينات هو مفتاح التنمية البشرية المستدامة، بعيداً عن الإحصاءات العامة نحو الواقع الإقليمي الحي.

 

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .