الجهوية المتقدمة… نموذج مغربي ناجح قبل تطبيق مبادرة الحكم الذاتي 2/5
دخل المغرب مرحلة مؤسساتية جديدة منذ اعتماد القانون التنظيمي 111-14 سنة 2015، حيث غيرت موقع الجهة داخل الدولة، ووضعتها لأول مرة كفاعل أساسي و صاحب قرار، ليس مجرد وحدة إدارية تابعة للمركز.
إن هذا التحول لم يكن مشروع تقني، بل بداية لانتقال سياسي حقيقي نحو توزيع السلطة وتجديد فلسفة الدولة، وكذا بناء نموذج تنموي ترابي يؤسس فعليا لتطبيق الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية.
ولعل أهم خلاصة في هذا المسار هي أن المغرب نجح في تجربة جهوية متقدمة أثبتت نجاعتها قبل أن يبدأ تنزيل الحكم الذاتي رسميا… أي أن النموذج قائم ويعمل، والبنية جاهزة، والجهات تمارس صلاحيات واسعة تؤكد أن التصور المغربي واقعي وقابل للتطبيق.
![]()
_ من الجهوية الشكلية إلى الجهوية الفعلية لإعادة توزيع السلطة
في هذا الصدد، كانت الجهة قبل 2015، إطار إداري محدود التأثير. لكن مع دخول القانون 111-14 حيز التنفيذ، أحدث تحول كبير يتجلى في :
1_ ميزانية جهوية مستقلة:
حيث بلغ مجموع ميزانيات الجهات 52 مليار درهم سنة 2025، مع ارتفاع سنوي ملحوظ للمداخيل الذاتية، ما جعل الجهة لأول مرة فاعل مالي حقيقي.
2_ صلاحيات تقريرية واسعة في:
_ التخطيط الاقتصادي
_ التكوين المهني
_ النقل
_ الاستثمار
_ البيئة
_ التنمية القروية
_ التشغيل والسياحة
_ إعداد التراب وتدبير العقار الاقتصادي
كلها عوامل جعلت للجهة صلاحيات كبرى تروم تحقيق التنمية الشاملة من أجل خدمة الصالح العام.
3_ علاقات وشراكات دولية
حيث أصبحت الجهات تتعامل مباشرة مع فاعلين دوليين في حدود القانون. وجهة الداخلة – وادي الذهب خير مثال على ذلك. فقد عقدت اتفاقيات تعاون مع جزر الكناري، السنغال، غامبيا، موريتانيا، وعدد من الولايات الأمريكية، الأمر الذي كان قبل عشر سنوات غير قابل للتصور.
4_ شرعية ديمقراطية كاملة
منحت انتخابات 2021 لرؤساء الجهات أقوى شرعية سياسية منذ إحداث الجهوية، وحولتهم إلى صناع السياسات لا مجرد منفذين فقط.
إذ خلقت نموذج مغربي خاص يستند إلى نقل سلطات حقيقية وليست رمزية، ما جعل المغرب ضمن الدول التي تمتلك هيكلة قريبة من الحكم الذاتي المتقدم بمعايير عالية.
_ المبادرة المغربية أقرب إلى تجربة كاتالونيا والباسك
![]()
يقيس مؤشر RAI 2024 درجة الحكم الذاتي الإقليمي عبر العالم. وكانت النتائج كالتالي:
كاتالونيا: 27 نقطة
إقليم الباسك: 28.5 نقطة
جهات المغرب: 24.5 نقطة
يتضح من خلال هذه الارقام والجدول أعلاه أن الفارق أصبح ضئيلا جدا، خاصة أن تجربة الجهوية المغربية عمرها أقل من عقد.
مقارنة بين الميزانيات:
كاتالونيا: 42 مليار يورو
إقليم الباسك: 24 مليار يورو
جهة الداخلة – وادي الذهب: 9.2 مليار درهم
جهة العيون – الساقية الحمراء: 13.4 مليار درهم
بالنظر لحجم السكان والمساحة، فإن الفارق ليس في حجم الموارد بل في عمر التجربة؛ فالمغرب يسير في نفس الاتجاه لكن بوتيرة سريعة.
مقارنة بين الصلاحيات:
من خلال المقارنة في ثلاث ملفات أساسية، فإن الجهات الجنوبية المغربية تتمتع بمرونة أكبر من جهات أوروبية قديمة من حيث الاستثمار الدولي المباشر، سياسة الطاقة المتجددة، و تدبير العقار الاقتصادي. ما يجعلها أقرب لنماذج بعض المناطق التي تمتلك حكم ذاتي اقتصادي، خصوصا جنوب تيرول وجزر فارو.
_ أرقام تنمية الأقاليم الجنوبية تقودها نحو الريادة
![]()
لا يمكن الحديث عن الحكم الذاتي دون أرقام، لأنها المؤشر الحقيقي على قدرة النموذج ومدى نجاحه على أرض الواقع من خلال:
_ الاستثمار العمومي 2016–2023
بلغ هذا الاستثمار أزيد من 77 مليار درهم في الأقاليم الجنوبية من أجل تنميتها و تحقيق مشاريع استراتيجية تعزز مكانة المنطقة وطنيا ودوليا وتساهم في انفتاحها على استقطاب استثمارات ضخمة وجعلها قطب اقتصادي عالمي واعد.
مشاريع البنية التحتية الكبرى المتمثلة في:
الميناء الأطلسي بالداخلية وهو أضخم ميناء في غرب إفريقيا
الطريق السريع تيزنيت–الداخلة الذي يبلغ 1055 كلم
محطات الطاقة الريحية والشمسية الأكثر إنتاجا على الصعيد الوطني
![]()
مؤشرات النمو تتجلى في:
انخفاض البطالة في الداخلة إلى 9.6% (أقل من المعدل الوطني)
ارتفاع الناتج الجهوي بنسبة 10% سنويًا في العيون خلال سنوات متتالية
تطور الصادرات البحرية بنسبة 35% خلال خمس سنوات
إن هذه الأرقام ليست عشوائية… إنما دليل عملي على أن المنطقة تتطور بسرعة أكبر من بعض الجهات في الشمال.
_ رؤية مغربية متقدمة…نحو نموذج موسع للحكم الذاتي
إذا كانت الجهوية المتقدمة شكلت الأرضية الصلبة، فإن الحكم الذاتي سيشكل الطابق السياسي الأهم في بناء الدولة الترابية الجديدة. حيث يقوم المقترح المغربي على ثلاث مستويات:
مستوى تدبيري:
يرتكز على منح المجالس الجهوية صلاحيات شبه كاملة فيما يخص:
_ التعليم الجهوي
_ الصحة الترابية
_ الاستثمار
_ الضرائب الجهوية
_ تدبير الموارد الطبيعية بشراكات خاضعة للمراقبة الوطنية
️ مستوى سياسي:
يتمحور حول انتخاب رئيس جهة الحكم الذاتي بشكل مباشر ، وبصلاحيات تنفيذية موسعة.
مستوى سيادي:
يمكن الدولة من الاحتفاظ بالصلاحيات السيادية المتعلقة بالدفاع، الأمن، العملة، العلاقات الخارجية.
يتضح جليا أن هذا النموذج متوازن، واقعي، ويتفوق في بعض التفاصيل التقنية على نماذج عالمية قائمة.
_ لماذا يعتبر النموذج المغربي نوعي ؟
الجواب واضح ، لأن المغرب فعل عكس ما فعلته دول أخرى، لم ينتظر الحل السياسي كي ينجح في المجال الاقتصادي والإداري . بل خلق النجاح أولا ثم بنى عليه الحل السياسي، في خطوة تعكس الدبلوماسية المقترنة بالتخطيط الاستراتيجي المحكم للوصول إلى نتائج إيجابية ملموسة.
![]()
فالجهوية المتقدمة اذا ليست إصلاح عابر، إنما هي الحلقة الأولى من مبادرة الحكم الذاتي. وما يجري اليوم في الداخلة والعيون هو دليل واضح أن المغرب قادر على إدارة نموذج متقدم من الحكم الذاتي بكفاءة تفوق تجارب أوروبية عمرها عقود لانه نموذج مغربي خالص يقوم على أسس صلبة و مبني على استقرار سياسي، رؤية ملكية واضحة، وحكمة مؤسساتية جعلت الحكم الذاتي جزء من هوية الدولة وليس تهديد لها.
Comments ( 0 )