الحكم الذاتي: من الالتزام الدولي إلى التصور المغربي الجديد 1/5
قراءة قانونية–سياسية في التحول الإقليمي والدولي منذ 2007
منذ ما يقارب عقدين من الزمن، عرف ملف الصحراء المغربية تحول عميق من نزاع مفتوح معقد إلى نموذج سياسي يحظى اليوم بالتزام دولي غير مسبوق.
![]()
يأتي ذلك، بفضل مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب سنة 2007، حيث شكلت نقطة فاصلة في انخراط المجتمع الدولي في هذا الملف بكل جدية. بالمقابل لم تكن هذه المبادرة مجرد اقتراح سياسي، بل بمثابة إعلان عن ميلاد تصور جديد لحل النزاعات مبني على الواقعية والبراغماتية، فضلا عن الإدراك العميق للتغيرات الجيوسياسية في المنطقة.
![]()
وعرف هذا الملف ترافعات كبرى للمغرب، بعد أن أبان على مصداقيته ونجاحه بهذا الاقتراح الذي نسج نموذج جديد يحتذى به من بين العديد من التجارب.
وقد يصبح مرجع أساسي لحل النزاعات القائمة، بفضل الرؤية الملكية الاستباقية والدبلوماسية الهادئة التي تهدف إلى تنمية الأقاليم الجنوبية وجعلها قطب استراتيجي فعال في ظل مغرب جديد، قوي ومتقدم. ما ساهم أيضا في تغيير موازين الملف من نزاع مجمد إلى مشروع سياسي وتنموي يؤسس لنموذج إقليمي جديد.
تحولات لغة مجلس الأمن… من قرار 1754 إلى القرار 2797
شكل قرار 1754 لسنة 2007 نقطة الانعطاف الأساسية، حيث أنه لأول مرة تسجل المبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها جدية وذات مصداقية. بعدها توالت القرارات على نفس المسار، لكنها لم تجعل الموقف على مستوى الإشادة، إنما تطورت إلى جعله دعم صريح لمبادرة الحكم الذاتي على اعتبارها الحل الواقعي الوحيد القابل للتطبيق.
ومع صدور القرار 2797 لسنة 2025، جدد مجلس الأمن دعمه الواضح للمبادرة المغربية، باعتبارها الحل الأكثر جدية وواقعية لإنهاء هذا الملف، كما دعا الأطراف الأخرى إلى الانخراط البناء في العملية السياسية وفق مقاربة توافقية. من جهة أخرى، مدد القرار ولاية بعثة المينورسو، مؤكدا دورها التقني في دعم الاستقرار الميداني، مع التشديد على أن الحل السياسي يجب أن يكون واقعي، عملي، ومستدام. بما يتوافق مع الرؤية المغربية للتنمية في الأقاليم الجنوبية.
![]()
بهذا أصبحت الأمم المتحدة نفسها تعتبر الحكم الذاتي قاعدة الحل الممكن وليس مجرد مقترح مغربي، ما يعكس التحول النوعي في لغة مجلس الأمن من التوازن إلى الوضوح والدعم الفعلي للمبادرة المغربية للحكم الذاتي.
لماذا فشلت البدائل الأخرى؟
في هذا السياق، طرحت ثلاثة خيارات تاريخيا:
_ مشروع الجمهورية المزعومة
ظل كمشروع بلا مقومات، بلا مؤسسات، في فضاء معزول، وتحت سلطة غير ديمقراطية. كما أنه لم يحقق أي اعتراف دولي مؤثر رغم الدعاية المكثفة. وهذا يعني فشل واضح لهذا المقترح.
_ خيار التقسيم
أما هذا التقسيم رفضه المجتمع الدولي لأنه يعاكس قواعد القانون الدولي من جهة ويهدد أمن الساحل من جهة أخرى. كما يعتبر ناسف لوحدة المغرب الترابية وبالتالي فإنه يخلق بؤرة صراع دائم.
_ الاستفتاء
هذا الخيار انهار تقنيا وقانونيا، نظرا لعدم وجود لوائح انتخابية دقيقة، وعدم الاتفاق على الجسم الناخب، بالإضافة إلى انتفاء أي ضمانات تحترم الواقع الديموغرافي والسياسي. وبذلك أعلنت الأمم المتحدة استحالة تنظيمه بالشكل القديم.
وبالتالي أصبح الحكم الذاتي هو الحل الوحيد الذي يناسب القانون الدولي، ويحفظ وحدة الدولة، ويضمن كرامة الساكنة.
الرؤية الملكية الاستراتيجية.. من تدبير نزاع إلى بناء نموذج جديد
منذ سنة 2007، لم يتعامل المغرب مع الحكم الذاتي كتكتيك مؤقت، بل كرؤية ملكية لدولة حديثة تنطلق من ثلاثة مرتكزات:
_ تحويل الأقاليم الجنوبية إلى نموذج تنموي متقدم ويشمل ذلك مشاريع كبرى في البنية التحتية، مثل ميناء الداخلة الأطلسي، والطريق السريع تيزنيت-الداخلة، إضافة إلى مشاريع الطاقة المتجددة، ومشاريع تحلية المياه. تعكس هذه المشاريع رؤية المغرب الاستراتيجية في تطوير الأقاليم الجنوبية وجعلها قطبا اقتصاديا واستراتيجيا متقدما.
_ إعادة صياغة الدبلوماسية المغربية على أساس الشراكات الاستراتيجية
_ تطوير المؤسسات الجهوية لتكون جوهر الحكم الذاتي في المستقبل
هذه الرؤية الملكية المتبصرة هي التي جعلت الملف يتحرك من نزاع حدودي مفتعل إلى مشروع دولة حديثة بمعايير عالية تطمح لتنمية جميع أقاليم المملكة ضمن مشاريع استراتيجية تنموية كبرى تساهم في بناء مغرب صاعد، قوي وموحد.
الدبلوماسية المغربية… كيف انتقلت من الدفاع إلى التأثير؟
لعل أكبر نجاح حققه المغرب هو تغيير الخريطة الدبلوماسية عبر التزام دولي متزايد نختص بالذكر:
_ اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء (2020)
_ دعم فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا لمبادرة الحكم الذاتي
_ فتح أكثر من 28 قنصلية في العيون والداخلة
_ انضمام دول إفريقية وأمريكية لاتينية لمسار الدعم
![]()
ونتج عن هذا الدعم تحول الملف من مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي مستدام إلى قضية استقرار إقليمي ضمن مبادرة دول الساحل الأطلسي، وبذلك أصبحت المبادرة المغربية معيار دبلوماسي دولي ناجح.
المقارنة مع بعض التجارب العالمية في الحكم الذاتي
توجد مجموعة من التجارب الدولية في مبادرة الحكم الذاتي مثل: هونغ كونغ، جنوب تيرول، جزر فارو، غرينلاند، زنجبار، إقليم الباسك، و كاتالونيا التي اتخدناها نموذج مقارن موضح في الجدول أسفله:
![]()
تظهر هذه التجارب بصفة عامة أن الحكم الذاتي الناجح يقوم على: مؤسسات قوية، اقتصاد محلي متقدم، صلاحيات واسعة و الإرتباط بسيادة الدولة. وهي نفس المعايير التي تقوم عليها المبادرة المغربية، ما يجعلها متقدمة ونوعية مقارنة بعدة تجارب دولية أخرى.
الرسالة الاستباقية…من مبادرة مغربية إلى نموذج إقليمي ناجح
إن المغرب اليوم لا يكتفي بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، بل يستعد لتقديم نموذج مغربي للحكم الذاتي كمرجع عالمي لحل النزاعات الإقليمية، خصوصا في إفريقيا ومنطقة الساحل. و يقوم هذا النموذج على:
_ الاستقرار
_ التنمية
_ مشاركة الساكنة
_ احترام الخصوصيات الثقافية
_ الارتباط بسيادة الدولة
وهذه أهم المقومات التي يرتكز عليها النموذج المغربي، حيث تشتمل على جميع الشروط اللازمة لنجاح مبادرة الحكم الذاتي وجعلها تجربة نوعية ناجحة ومرجعية أساسية.
![]()
ما الذي يمكن فعله غدا؟
بصفتنا صحافة الحلول فإن أبرز ما يمكن اقتراحه هو:
_ إطلاق نقاش وطني حول الحكم الذاتي 2030
_ تقوية الصلاحيات الجهوية للأقاليم الجنوبية
_ تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية الموجهة لإفريقيا
_ تقديم نموذج مؤسساتي جاهز للتطبيق فور التوصل إلى الحل
كلها حلول ناجعة قد تساهم في بلورة هذه المبادرة عبى الانخراط الشامل لجميع مكونات الدولة لإصدار وثيقة رسمية لمبادرة الحكم الذاتي وجعلها نموذج ناجح يحتذى به.
Comments ( 0 )