الصحافة الاستقصائية بالمغرب: غائبة وسط وفرة الإمكانيات والكفاءات

الصحافة الاستقصائية بالمغرب: غائبة وسط وفرة الإمكانيات والكفاءات

 

 

 

في معاناتنا جرّاء تراجعنا في مؤشرات النزاهة ومدركات الفساد، كما تكشف ذلك تقارير هيئة النزاهة والشفافية و تقارير دولية مؤخراً، برز غياب الصحافة الاستقصائية كجرح مفتوح في جسد الديمقراطية المغربية. هذا الغياب ليس نتيجة نقص في الكفاءات أو الإمكانيات، بل هو انعكاس لتقاعس مؤسسي يحول دون تحول الصحافة إلى أداة حقيقية للمحاسبة والبناء الاجتماعي.

 

في وقت تتفاقم فيه تداعيات الفساد اقتصادياً واجتماعياً، أصبح السؤال ملحاً: لماذا تبقى الصحافة الاستقصائية، رغم أهميتها، غائبة عن الساحة رغم توفر الظروف المادية والمؤسساتية؟

 

الواقع يتحدث عن نفسه!

 

تقارير رسمية تؤكد أن ضعف الفعالية القضائية وتراجع نزاهة الحكومة يهددان استقرار المجتمع وثقته في مؤسساته. في مثل هذه البيئة، تُعتبر الصحافة الاستقصائية درعاً ضرورياً لكشف التجاوزات وتعزيز الشفافية. لكن بدلاً من أن نشهد ازدهار هذا النوع من الصحافة، نجد أنفسنا أمام مشهد يغلب عليه التفاهة و التسطيح أمام الصمت و تقارير البلاغات الاستنكارية التي لا تلامس جذور المشكلات. هذا الوضع ليس قدراً محتوماً، بل نتيجة اختيارات تتحمل مسؤوليتها جهات متعددة، من مؤسسات إعلامية و نقابات و سياسيين وصولاً إلى السلطات الوصية على قطاع الصحافة، تتماطل عن دعم هذا الورش المجتمعي الحيوي.

 

في المقابل، هناك جيل جديد من الكفاءات الصحفية الشابة يمتلك الجرأة والرغبة في الانخراط في هذا المجال. شباب يتابعون القضايا الاجتماعية بنظرة نقدية، أكاديمية، وطنية، يكتبون عن الإرهاق المهني، البناء العشوائي، تضارب المصالح، الفساد السياسي وسوء التخطيط العمراني، لكنهم محرومون من الأدوات التي تمكنهم من تحويل هذا النقد إلى تحقيقات استقصائية عميقة. هؤلاء الصحفيون يملكون الموهبة والطموح، لكنهم يصطدمون بحواجز مادية ومؤسسية تحول دون تحقيق إمكاناتهم الكاملة. إنهم يعملون في بيئة تتوفر فيها موارد مالية ومؤسسات إعلامية يمكن أن تكون رافعة للتغيير، لكن هذه الموارد تظل محصورة في الأطر التقليدية التي لم تقدم حتى اليوم أية خدمة للطموح الديمقراطي الذي نشده قائد البلاد، الذي حول لهم صلاحيات واسعة ضلت في نظرهم حبيسة الإمتيازات الشخصية.

 

المسؤولية هنا لا تقع على عاتق الصحفيين الشباب وحدهم، بل تشمل القائمين على قطاع الصحافة والمسؤولين في الدولة. المؤسسات الإعلامية مدعوة للخروج من دائرة الراحة، وتوفير التمويل والتدريب اللازمين لإطلاق مشاريع استقصائية جادة. أما السلطات العمومية، فمطالبة بضمان بيئة قانونية تحمي الصحفيين بدلاً من تقييدهم بضروف اجتماعية و اقتصادية تستنزف صحتهم قبل شغفهم بلحظة التغيير المنتظر، مطالبة بالتشجيع على المحاسبة بدلاً من التعتيم. فلا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة أو بناء ديمقراطي دون صحافة قادرة على كشف الحقائق ومواجهة الفساد بجرأة وموضوعية.

 

الوضع المعقد الذي تعيشه الصحافة الاستقصائية بالمغرب ليس عذراً للاستسلام، بل دعوة للتحرك. الظروف موجودة، والإمكانيات متوفرة، والكفاءات الشابة جاهزة. ما ينقص هو الإرادة لتحويل هذه المعادلة إلى واقع ملموس. إن دعم هذا التوجه الصحفي ليس ترفاً، بل ضرورة لمواجهة الفساد الذي يكلف البلاد اقتصادياً واجتماعياً، ولتعزيز ثقة المواطن في مؤسساته. اليوم، الكرة في ملعب المسؤولين والقائمين على القطاع:

هل سيظلون متفرجين، أم سيقررون الاستثمار في مستقبل صحافة تلعب دورها الحقيقي في البناء الديمقراطي؟

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .