الصحافة المستقلة… نضال القيم في زمن المال
مرت الصحافة عبر محطات ومراحل متعددة صقلت تجربتها، وغيرت وشكلت ملامحها، لتفرز صحافة جديدة اتسمت بالتوحيد والوطنية وخدمة القضايا الكبرى التي تصب في صميم المصلحة العامة.
لقد كانت الصحافة في جوهرها، صوت من لا صوت له، ترافع عن القضايا الوطنية، وتعالج الإشكالات الاجتماعية، وتشارك في الفعل السياسي، وتمارس سلطتها الرقابية في الإطار المسموح به، مقدمة خدمة عمومية تقوم على النزاهة والشفافية والحياد.
غير أن المشهد الإعلامي عرف لاحقا بروز تيارات جديدة، من الصحافة الحزبية إلى الصحافة الحرة ذات الطابع الفردي، إلى جانب ظهور المقاولات الصحفية، التي أحدثت فارقا واضحا في مجال الصحافة والإعلام. ومع ضعف الدعم العمومي المقدم من طرف الدولة، أصبح عامل الربح هو المتحكم في الصورة العامة، وفرض منطق المنافسة الشرسة بين المقالات. وحين اقترنت الصحافة بالربح المادي، تحول الأمر من رسالة إلى تجارة، فتآكلت أصول المهنة، وتراجعت قيمها وأخلاقياتها، ما مس بشكل مباشر القيمة الاعتبارية للصحافة الوطنية.
وهناك صحفيون، أقل ما يمكن أن نطلق عليهم هو مناضلون، اشتغلوا بجهد وجدية لسنوات دون الحصول على أي تعويض مالي. قد يصدم بذلك البعض، فيما يدركه ويعيه آخرون جيدا. صحفيون حملوا هم المهنة على عاتقهم، واشتغلوا بمنطق الرسالة لا الغنيمة، واضعين نصب أعينهم إصلاحا جذريا لمهنة الصحافة، والدفاع عن حقوق الصحفي المهني، وحفظ قيمته المادية والاعتبارية، وتمتيعه بكافة الحقوق التي تضمن له الكرامة والاستقلالية والاستمرار.
إن الإصلاح القائم اليوم داخل منظومة الصحافة يرجح كفة استعادة معالمها الوطنية الحقيقية، عبر قوانين مؤطرة، وأخلاقيات مهنية واضحة، ومجلس مهني مستقل يعالج كل ما يتصل بالمجال الصحفي. هذا الإصلاح من شأنه أن يعيد الروح للصحافة، لتعود قوية، حرة، مستقلة، محايدة، شفافة ونزيهة.
ولعل الفصل بين المال والصحافة كفيل بإحداث الفارق، إلى جانب ضمان الحقوق المادية والاجتماعية والاعتبارية للصحفي المهني، بما يمنح انطلاقة حقيقية للعمل الصحفي الجاد.
إن الصحافة اليوم تقف على المحك، فإما إنقاذ ما تبقى من أطر وطنية شريفة، عبر إصلاح أوضاعها ومنحها دفعة قوية للاستمرار، ورسم معالم صحافة وطنية قوية تشتغل وفق القوانين المعمول بها، وإما ترك المجال للعشوائية وهيمنة المصالح المادية، بما يعني القضاء على الصحافة دفعة واحدة. أو في المقابل، ميلاد صحافة جديدة قائمة على مقومات وأسس صلبة تعكس صورة إيجابية عن المغرب، وتدخل الصحافة الوطنية مرحلة التوحيد والإصلاح الحقيقي.
السؤال اليوم لم يعد يتعلق بحرية الصحافة، بل: هل يسمح لها أن ترى النور أم يراد لها أن تبقى في الظلمات؟
Comments ( 0 )