الصحافة بين الحرية والمسؤولية: حين يتحول الرأي إلى محاكمة

الصحافة بين الحرية والمسؤولية: حين يتحول الرأي إلى محاكمة

 

 

 

تشهد قاعات المحاكم المغربية بين الحين والآخر، مثول صحفيين ومؤثرين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي أمام العدالة، بسبب محتوى يعتبره البعض مسيئًا أو مخالفًا للقانون، بينما يراه آخرون تعبيرًا مشروعًا عن الرأي أو كشفًا لمعلومة تهم الرأي العام. هذا الجدل المتصاعد حول حدود حرية التعبير يسلط الضوء مجددًا على الإشكال القائم بين الحق في النقد والتحريض، وبين التعبير عن الرأي و التجاوز المهني. في هذا المشهد الملتبس يتساءل المواطن: من يحدد الخط الفاصل؟ وهل نحن أمام محاولة لإسكات الأصوات؟ أم أمام تصحيح لمسار إعلامي منفلت؟

 

ومع تزايد المتابعات القضائية، تُطرح تساؤلات كثيرة عن مدى حماية القانون لحرية التعبير، ومدى التزام الممارسين بالإطار القانوني والأخلاقي لمهنة الصحافة، واحترام باقي المواطنين لحدود حرية التعبير. فهل نحن بصدد تكميم للأصوات باسم القانون؟ أم أن المسألة تتعلق فعلاً بضبط التجاوزات التي تمارس باسم الإعلام؟ وبين من يتقمص دور الصحفي دون صفة قانونية، ومن يلتزم بقواعد المهنة، يبقى المواطن هو المتلقي الحائر.

 

من حيث المبدأ، يضمن الدستور المغربي في الفصل 25 حرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكالها، كما يقرّ في الفصل 28 أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. هذه الضمانات الدستورية تؤطر الحق في التعبير وتمنحه حماية قانونية صلبة.

 

غير أن هذه الحماية لا تعني غياب الحدود، بل تمارس حرية التعبير ضمن ضوابط قانونية وأخلاقية. ووفقًا لقانون الصحافة والنشر رقم 88.13، تنص المادة الاولى منه على : ” طبقا لأحكام الدستور ولاسيما الفصول 25 و 27 و 28 منه ووفقا للالتزامات التي تترتب عن الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، يحدد هذا القانون القواعد المتعلقة بممارسة حرية الصحافة والنشر والطباعة مع مراعاة أحكام قانون رقم 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري وعلى الخصوص :

_ شروط ممارسة الصحافة.
_ حقوق الصحافيات والصحافيين والمؤسسات الصحفية وضمانات ممارسة الصحافة، ولاسيما مبدئي الحرية والتعددية اللذان يكفلهما الدستور. والالتزامات الواجب مراعاتها من قبلهم:

_ القواعد المنظمة لأنشطة الطباعة والتوزيع والإشهار المرتبطة بالصحافة والنشر.
_ القواعد المتعلقة بالحماية الخاصة لبعض الحقوق وباختصاص المحاكم والمساطر المتبعة أمامها.
_ القواعد المتعلقة بأخلاقيات المهنة.” أي أن حرية الصحافة تمارس بحرية وفي إطار القانون، ويجب أن تحترم المبادئ الديمقراطية وحقوق الغير. كما تنص المادة 3 على ” حرية الصحافة مضمونة طبقا لأحكام الفصل 28 من الدستور ولا يمكن تقييدها بأي شكل من اشكال الرقابة القبلية.
حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة للجميع طبقا للفصل 25 من الدستور.

تمارس هذه الحقوق والحريات طبقا للدستور وفق الشروط والشكليات الواردة في هذا القانون ووفقا للقانون رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحفيين المهنيين والقانون رقم 90.13 المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة.

حرية طباعة الصحف وغيرها من المطبوعات وتوزيعها مضمونة بموجب هذا القانون” إذ تُحمل الصحفي المسؤولية القانونية عن كل ما يُنشر، بينما تحدد المادة 1 من القانون رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، شروط اعتبار الشخص صحفي مهني، ومنها التوفر على بطاقة الصحافة المهنية. ويتم إثبات الصفة وفقا لأحكام المادة الربعة 4 من القانون رقم 89.13 الذي يقضي أنه ” يتم إثبات صفة الصحفي المهني بواسطة بطاقة الصحافة المهنية المسلمة للمعني بالأمر وفقا لأحكام هذا القانون والنصوص المتخذة لتطبيقه…”

 

أما على مستوى ميثاق أخلاقيات المهنة، فإن الصحفي مطالب بالتحقق من صحة المعلومات، واحترام الحياة الخاصة للأفراد، والامتناع عن القذف والتشهير، مع ضرورة الفصل بين الخبر والرأي، وتجنب الإثارة والمساس بالكرامة الإنسانية. بالمقابل تضمن له حرية الرأي من حيث المبدأ ولا يمكن تقييده بأي شكل من الأشكال. إلا أنه ليس عشوائيا ويجب أن ينبني على وقائع صحيحة.

 

لكن الواقع يشي بتناقضات صارخة. ففي الوقت الذي ينتظر من الصحفي أن يؤدي دوره الرقابي بكفاءة واستقلالية، يُفاجئ البعض بمتابعات قضائية بسبب مقالات أو تدوينات تنتقد شخصيات عامة أو مؤسسات، مما يطرح علامات استفهام حول ما إذا كانت بعض المحاكمات تتجاوز مقتضيات القانون إلى تصفية حسابات سياسية أو شخصية. أم أن هناك تجاوزات أخرى يقع فيها الصحفي.

 

ويُثير هذا الوضع قلقًا داخل الجسم الصحفي، حيث يُطالب المهنيون بضرورة توفير الحماية القانونية للصحفي الذي يلتزم بأخلاقيات المهنة، مع التشديد على أن النقد المشروع لا ينبغي أن يُواجَه بالردع، بل بالنقاش والتوضيح. في المقابل، يشدد المتابعون على أهمية احترام القوانين، خاصة حين يتعلق الأمر بنشر معلومات مغلوطة أو تمس بكرامة الأفراد دون سند مهني أو دليل.

 

وفي سياق متصل، لا يخلو هذا المسار من الإشكالات. فهناك من يرى أن اقتصار تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الصحفي المهني الحاصل على بطاقة الصحافة يمثل نوعًا من الاحتكار لحرية التعبير، ويقيد حق المواطنين في التعبير عن آرائهم.

 

فيما يرى آخرون أن هذا التمييز قد يقيد الصحفي المهني أيضًا، إذ من الممكن متابعته قانونيًا حتى إن كتب مجرد تدوينة على صفحته الشخصية يعبر فيها عن قضية معينة، مما يجعله محاصرًا داخل جدران مؤسسته الإعلامية الرسمية.

 

وبينما يرجح البعض تخصيص صوت الحق للقوى الحية من الأطر الصحفية المهنية، يُؤكدون أن ولوج هذه القضايا يجب أن يتم بقوة القانون وبكل مهنية وحيادية، لمعالجة الملفات الوطنية الكبرى وتنوير الرأي العام، لتعزيز الثقة في إعلام نزيه وفعال وردع كافة الأشكال المسيئة لصورته. على أن يقابل ذلك تمكين المواطنين من التعبير عن آرائهم بكل حرية، شريطة ألا تمس بحرية الآخرين، وألا تُستعمل في ذلك سلوكيات مخالفة للقانون أو تحريضية، كما تنص على ذلك بوضوح القوانين المعمول بها.

 

وفي خضم هذا الجدل، يبقى القانون هو الفيصل العادل شريطة أن يطبق بروح العدالة لا بسيفها، وأن يُفعّل في إطار يضمن حرية التعبير للجميع، من صحفيين ومؤثرين ومواطنين، دون أن يتحول إلى أداة للترهيب أو التصفية. فالمطلوب ليس تكميم الأفواه، بل ضبط الأداء الإعلامي وفق ضوابط مهنية وأخلاقية واضحة تحفظ كرامة الأفراد وتحصن المجتمع ضد الفوضى الإعلامية.

 

وعليه، فإن الجواب عن هذا الإشكال لا يكمن فقط في نصوص القانون، بل في تطبيقه العادل، وتحديثه بما يواكب تحولات المشهد الإعلامي والاجتماعي. ويبقى السؤال مطروحًا: هل نمتلك اليوم القدرة على صياغة نموذج متوازن لحرية التعبير، يحمي الحق ويحاسب الانفلات، ويعترف بدور المواطن كما الصحفي دون تمييز ولا تقييد؟

 

وبعد هذا العرض المتشابك بين القانون والواقع، تبقى في الختام مجموعة من التساؤلات الجوهرية التي تفرض نفسها:

 

_ ما هي حدود حرية التعبير وعلاقتها بأخلاقيات مهنة الصحافة؟

_ هل الجدل القائم نابع من أيديولوجيات معينة؟ أم من تنازعات حزبية؟

_ثم هل حرية التعبير تخول تجاوز القوانين المعمول بها؟ أم أن التحلي بالأخلاقيات واحترام الضوابط وممارستها بشفافية سواء من قبل الصحفيين أو المجتمع هو السبيل الأمثل نحو مشهد إعلامي سليم ومتوازن؟

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .