الكدية البيضاء: تماسك اجتماعي يعيد الحياة للبيئة المحلية
في قلب حاظرة المحيط، ينبض حي الكدية البيضاء، أحد أقدم الأحياء وأكثرها أصالة، بنموذج ملهم للتكافل الاجتماعي والعمل الجماعي في خدمة البيئة. هنا، حيث تتداخل الأزقة الضيقة والدروب المغلقة “دريبة قاعية”، يجتمع سكان الحي، بقيادة كبار السن الذين لم تنطفئ شرارة الحماس في قلوبهم، لإحياء تقليد أسبوعي يجمع بين العمل البيئي والتواصل الاجتماعي. هذا التقليد، الذي بدأ كمبادرة عفوية، تحول إلى نموذج مستدام يستحق الاحتفاء والتوسع.
إفطار جماعي يسبق العمل البيئي
كل أسبوع، يبدأ اليوم في الكدية البيضاء بوجبة إفطار جماعية تجمع الجيران، يتبادلون فيها الأحاديث والضحكات. بعدها، ينطلق الجميع، شباباً وشيوخاً، لتنظيف الأرصفة، تهيئة الحدائق، والعناية بالمساحات العامة. هذه الأنشطة ليست مجرد عمل روتيني، بل تعبير عن روح الحي الذي يرفض الانتظار لوعود المسؤولين أو المبادرات الخارجية. يقول يوسف، أحد سكان الحي: “هذا حينا، هنا فتحنا أعيننا، ولن ننتظر أحداً ليعتني به أو بمحيط المدرسة والحدائق.”
من ماضٍ صناعي إلى حاضر بيئي
كان حي الكدية البيضاء ملتقى عمال السكك الحديدية والمصانع الكيميائية الذين استقروا في المدينة خلال فترة ازدهارها الصناعي. هؤلاء، الذين قدموا شبابهم لبناء الوطن، تركوا بصمة في شوارع مثل زنقة وليلي، زقاق الأهرام، زنقة الهلال الأحمر المغربي وشارع بديع الزمان الهمداني. اليوم، يواصل أبناؤهم وأحفادهم إرث التضامن من خلال مبادرات بيئية تعيد للحي رونقه ونظافته. تصميم الحي الفريد، بدروبه المغلقة، يعزز هذا الشعور بالانتماء، حيث يظل التماسك الاجتماعي والجيرة الحسنة جوهر هويته.
“الكديولوجي”: مجتمع مصغر يتحدى التحديات
لم يكن حي الكدية البيضاء يوماً مجرد مكان للسكن. فقد احتضن عبر تاريخه تنوعاً ثقافياً واجتماعياً، خاصة من قبائل عبدة، مما أفرز صداقات وطيدة ومواهب في الفن، الرياضة، والعمل الجمعوي و النضال النقابي و السياسي. رغم التحديات التي واجهها الحي، مثل انتشار البطالة والمخدرات، يعيد الشباب اليوم إحياء روح المبادرة. فمن خلال تجارتهم البسيطة، مثل بيع السمك أو تقديم خدمات تنظيف الأسماك وتوصيل الخبز، يحافظون على إيقاع حياة نابض بالتعاون والاحترام المتبادل.
حلول مستدامة لمجتمع أفضل
ما يجعل تجربة الكدية البيضاء نموذجاً يستحق الاقتداء هو تركيزها على الحلول المستدامة. المبادرة الأسبوعية لتنظيف الحي وزراعة الحدائق ليست مجرد نشاط مؤقت، بل جزء من ثقافة الحي التي تعزز الوعي البيئي والمسؤولية الجماعية. هذه الأنشطة لا تعتني بالبيئة فحسب، بل تعيد بناء الروابط الاجتماعية، وتوفر للشباب فرصة للمساهمة الإيجابية في مجتمعهم، بعيداً عن إغراءات السلوكيات السلبية.
دروس للتوسع والاستمرار
لتعزيز استمرار هذا النموذج وتوسعه إلى أحياء أخرى، يمكن اتباع عدة خطوات:
توثيق التجربة: إنشاء منصة رقمية أو كتيب يوثق أنشطة الحي ويشارك قصص نجاحه لإلهام أحياء أخرى.
الشراكات المحلية: التعاون مع الجمعيات والمدارس لتوسيع نطاق المبادرات البيئية وتشجيع مشاركة الأطفال والشباب.
دعم لوجستي: توفير أدوات بسيطة مثل معدات البستنة والتنظيف من قبل السلطات المحلية لتسهيل العمل.
احتفالات موسمية: تنظيم فعاليات سنوية تحتفي بالإنجازات البيئية وتعزز الروح الجماعية.
منظور أوسع:
حي يحتفل بالتامغرابيت
الكدية البيضاء ليست مجرد حي مطل على المحيط، بل رمز للتماسك الاجتماعي والعمل الجماعي. من خلال مبادراته البيئية، يقدم الحي درساً في كيفية تحويل التحديات إلى فرص، وكيف يمكن لمجتمع صغير أن يصنع فرقاً كبيراً. إنه نموذج يستحق الدعم والتكرار، ليس فقط في حاضرة المحيط، بل في كل الأحياء التي تتوق لاستعادة روحها ونظافتها. في الكدية البيضاء، الجيرة ليست مجرد كلمة، بل أسلوب حياة يحتفل بالتامغرابيت – روح الانتماء والعطاء.
Comments ( 0 )