المهرجان الدولي لفيلم الأركيولوجيا والتراث: حيث تلتقي السينما بالتراث الحضاري في المغرب

المهرجان الدولي لفيلم الأركيولوجيا والتراث: حيث تلتقي السينما بالتراث الحضاري في المغرب

 

 

 

الرباط – في خطوة رائدة نحو الاحتفاء بالتراث الأركيولوجي العريق للمغرب، انطلقت الدورة الأولى للمهرجان الدولي لفيلم الأركيولوجيا والتراث في العاصمة الرباط، خلال الفترة من 23 إلى 27 أبريل 2025، تحت شعار “شمال إفريقيا: إعادة كتابة لتاريخ الإنسانية”. هذا الحدث الثقافي المميز، الذي أشرف على افتتاحه وزير الشباب والثقافة والتواصل، السيد محمد المهدي بنسعيد، يمثل تقاطعًا فريدًا بين الفن السابع والعلوم الأثرية، بهدف إبراز التراث الحضاري المغربي وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على الذاكرة التاريخية. يأتي هذا المهرجان في سياق طموح ليصبح موعدًا سنويًا يجمع المهنيين والجمهور من إفريقيا والعالم العربي، لاستكشاف أصول الإنسانية عبر السينما.

 

على طريق أن يصبح المغرب، مهد الحضارة ووجهة أركيولوجية عالمية.

يعد المغرب من أغنى الدول بالمواقع الأركيولوجية التي تحكي قصصًا تمتد عبر آلاف السنين، من عصور ما قبل التاريخ إلى الحضارات القديمة مثل الفينيقية، الرومانية، والإسلامية. مواقع مثل وليلي، ليكسوس، وطاموسيدا، إلى جانب الكهوف الأثرية في جبل إيغود نواحي آسفي، تضع المغرب في صدارة الدول التي ساهمت في كتابة تاريخ الإنسانية. هذه الثروة الأركيولوجية ليست مجرد حفريات أو آثار حجرية، بل هي شاهد على تطور الفكر البشري، الإبداع الفني، والتبادل الثقافي عبر القارات.

 

من هنا، يأتي المهرجان الدولي لفيلم الأركيولوجيا والتراث كمنصة مبتكرة تهدف إلى إعادة إحياء هذا الإرث بطريقة معاصرة. فالسينما، بوصفها وسيلة تعبيرية تجمع بين الصورة والصوت والرواية، تمتلك القدرة على تحويل القطع الأثرية إلى قصص حية تلامس قلوب الجمهور، خاصة الشباب الذين يشكلون جسرًا بين الماضي والمستقبل.

 

رؤية المهرجان وأهدافه اليوم

تحت مظلة مركز الدراسات والأبحاث في التراث الأركيولوجي والأنثروبولوجي للأطلس المتوسط، وبدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل وولاية جهة الرباط-سلا-القنيطرة، يسعى المهرجان إلى تحقيق ثلاثة أبعاد رئيسية: السينما الوثائقية، التراث المغربي، وعصر ما قبل التاريخ. هذه الأبعاد تتجسد في برنامج غني يشمل عروضًا سينمائية، تكريمات، ونقاشات تهدف إلى تعزيز الوعي بالقيمة العلمية والثقافية للأركيولوجيا.

 

في كلمته الافتتاحية، أكد الوزير بنسعيد على أهمية توظيف السينما كأداة للتعريف بالتراث الوطني، مشيرًا إلى أن “الحفاظ على الذاكرة التاريخية يمر عبر إشراك جميع الوسائط الثقافية والفنية”. هذا التوجه يعكس رؤية استراتيجية تهدف إلى جعل الأركيولوجيا ليست مجرد تخصص أكاديمي، بل تجربة ثقافية ممتعة وملهمة.

 

ومن خلال التركيز على الشباب، يسعى المهرجان إلى غرس حب الاستكشاف التاريخي وتعزيز الهوية الحضارية في أجيال المستقبل.

 

يضع برنامج المهرجان الزوار في رحلة عبر التاريخ حيث

قدمت الدورة الأولى للمهرجان برنامجًا متنوعًا يضم أكثر من 30 فيلمًا وثائقيًا وروائيًا قصيرًا، تناولت مواضيع مرتبطة بالتاريخ، الحفريات الأثرية، والهوية الحضارية. هذه الأفلام لم تقتصر على التراث المغربي فحسب، بل امتدت لتشمل اكتشافات أركيولوجية من مختلف القارات، مما يعكس طموح المهرجان ليكون منصة عالمية.

محور الدورة الأولى هذه السنة، “البحر الأبيض المتوسط وفترة ما قبل التاريخ”، سلط الضوء على الدور المحوري لشمال إفريقيا في تشكيل الحضارات البشرية.

 

إلى جانب العروض السينمائية، شهد المهرجان تكريم عدد من الشخصيات البارزة في مجال الأركيولوجيا، من بينهم الباحث الفرنسي إيف كوبانس، المعروف بإسهاماته القيمة في دراسة عصور ما قبل التاريخ بالمغرب. هذا التكريم لم يكن مجرد احتفاء بالأفراد، بل تأكيد على أهمية التعاون الدولي في الحفاظ على التراث وتثمينه.

 

التعاون الدولي: جسور ثقافية

استفاد المهرجان من تعاون وثيق مع مهرجان الفيلم الأركيولوجي في أميان بفرنسا، الذي يعد من أعرق المهرجانات المتخصصة في هذا المجال منذ انطلاقه عام 1990. هذا التعاون يندرج ضمن سياسات التبادل الثقافي بين المغرب وفرنسا، ويعزز مكانة المهرجان ضمن شبكة عالمية تضم مهرجانات مماثلة في دول مثل إسبانيا، إيطاليا، سويسرا، كرواتيا، اليونان، والولايات المتحدة. هذه الشراكة تتيح تبادل الخبرات واستقطاب صناع أفلام وخبراء أركيولوجيا من مختلف أنحاء العالم، مما يثري التجربة الثقافية ويوسع آفاق الجمهور.

 

يمثل المهرجان إضافة نوعية إلى المشهد الثقافي المغربي، الذي يزخر بالمهرجانات السينمائية مثل مهرجان مراكش الدولي للفيلم ومهرجان سلا لفيلم المرأة. لكنه يتميز بتركيزه على الأركيولوجيا، وهو مجال لم يحظَ بالاهتمام الكافي في السينما المغربية سابقًا. من خلال هذا الحدث، يسعى المغرب إلى تعزيز مكانته كوجهة ثقافية وسياحية تستند إلى تراثه العميق، فضلاً عن تشجيع الإنتاج السينمائي الوثائقي الذي يركز على القضايا التاريخية.

 

كما يسهم المهرجان في تعزيز الهوية الوطنية من خلال إبراز التنوع الثقافي والحضاري للمغرب، الذي شكل نقطة التقاء بين الحضارات عبر العصور. الأفلام المعروضة، سواء كانت وثائقية أو روائية، تقدم روايات بصرية تأخذ الجمهور في رحلة عبر الزمن، من الكهوف القديمة إلى المدن الرومانية، مرورًا بالتراث الإسلامي والأمازيغي.

 

كما تطمح الدورة الأولى للمهرجان إلى وضع الأسس لتظاهرة ثقافية سنوية تصبح مع الوقت واحدة من أبرز المواعيد السينمائية المتخصصة في العالم. من خلال جذب المهنيين والجمهور من إفريقيا والعالم العربي، يسعى المهرجان إلى تعزيز الحوار الثقافي وتشجيع إنتاج أفلام وثائقية تسلط الضوء على التراث الأركيولوجي. كما يمكن أن يسهم في تحفيز السياحة الثقافية، حيث يشجع الزوار على استكشاف المواقع الأثرية المغربية التي تظهر في الأفلام.

 

في المستقبل القريب، من المتوقع أن يتوسع المهرجان ليشمل ورش عمل لتدريب الشباب على إنتاج الأفلام الوثائقية، ومعارض لعرض القطع الأثرية، ومؤتمرات علمية تجمع الباحثين في الأركيولوجيا. هذه الخطوات ستعزز بلا شك من دوره كمنصة شاملة للتعليم، الإبداع، والحفاظ على التراث.

 

منظور أوسع:

المهرجان الدولي لفيلم الأركيولوجيا والتراث ليس مجرد حدث سينمائي، بل هو احتفاء بالذاكرة الإنسانية التي يحملها المغرب في طيات ترابه. من خلال مزج الإبداع السينمائي بالعلوم الأثرية، يقدم المهرجان طبقًا ثقافيًا غنيًا يضيء معالم التراث المغربي ويروي قصص الحضارات التي شكلت هوية المنطقة. إنه دعوة للجمهور للسفر عبر الزمن، واكتشاف الجذور العميقة للإنسانية، وتأكيد على أن الحفاظ على التراث ليس واجبًا فحسب، بل متعة ومصدر إلهام. مع هذه الدورة الأولى، يضع المغرب بصمته في خارطة المهرجانات العالمية، مؤكدًا دوره كحاضن للتراث ومبدع للمستقبل.

 

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .