برلمان شبه خالٍ يصادق على قوانين مصيرية
في يوم الثلاثاء 22 يوليوز 2025، اختتمت الدورة الربيعية البرلمانية بمشهد يثير الدهشة والقلق في آن واحد. صادق مجلس النواب، في جلسة شبه خالية من النواب، على مشروعي قانونين بالغي الأهمية: مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، ومشروع قانون المسطرة الجنائية في قراءته الثانية. لكن ما أثار استغرابنا ليس مضمون هذه القوانين فحسب، بل غياب أكثر من 85% من أعضاء المجلس، حيث حضر 62 نائباً فقط من أصل 395، بينما تغيب 333 نائباً ونائبة عن هذا الحدث التشريعي الحاسم. فكيف يمكن لمجلس يمثل إرادة الشعب أن يتخذ قرارات بهذه الأهمية في ظل غياب الأغلبية الساحقة من ممثليه؟
قوانين مصيرية تحت مجهر النقاش العام
مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة أثار جدلاً واسعاً قبل وأثناء مناقشته. فقد اعتبرته أصوات من المعارضة، مثل النائبة فاطمة التامني عن “فدرالية اليسار الديمقراطي”، ونبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، تهديداً لحرية الصحافة هذا قبل نسف النقاش من نائبة اتحادية تعمدت جهلها للنظام الداخلي لمجلس النواب، هي و رئيس فريقها الذي يؤشر لها بأصبعه للاستمرار في الخرق و تعطيل النقاش الذي حضره الوزير الوصي. من جانب آخر وصف الزعيم التقدمي بنعبد الله القانون بأنه “فضيحة ديمقراطية كبرى”، معتبراً أنه لا يعكس إرادة حقيقية لتعزيز الديمقراطية داخل المجلس الوطني للصحافة. النقاش حول هذا القانون لم يقتصر على الدوائر السياسية، بل امتد إلى الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني، الذين اعتبروا أن بعض بنوده قد تكبل حرية التعبير وتعيق استقلالية الإعلام في منبث الأحرار.
أما مشروع قانون المسطرة الجنائية (رقم 03.23)، فقد كان محور نقاشات ماراطونية استمرت لساعات طويلة، حيث شهد تقديم 1384 تعديلاً، مع حصة كبيرة من حزب العدالة والتنمية (435 تعديلاً) والفريق الاشتراكي (308 تعديلات). هذا القانون، الذي يهدف إلى تحديث المنظومة القانونية الجنائية، تضمن مستجدات مهمة مثل تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، رقمنة العدالة، تقليص مدد الاعتقال الاحتياطي، وضمان حضور المحامي في مراحل التحقيق الأولية. لكنه أثار جدلاً حول قضايا حساسة، مثل دور منظمات المجتمع المدني في كشف الفساد وضوابط الحراسة النظرية.
أزمة تمثيلية أم إهمال واجب؟ الجدية؟
ما يثير القلق أكثر من مضمون هذه القوانين هو المشهد الذي صادق فيه المجلس عليها. حضور 62 نائباً فقط، بينهم 47 من الأغلبية و15 من المعارضة، في جلسة للتصويت على تشريعات تؤثر مباشرة على حياة المواطنين، يطرح تساؤلات جدية حول شرعية القرارات المتخذة. نسبة الغياب التي بلغت 85% من إجمالي أعضاء المجلس تكشف عن فجوة عميقة في أداء البرلمان، وتثير مخاوف بشأن مدى تمثيلية هذه القوانين لإرادة الشعب.
هل يعقل أن تُتخذ قرارات بهذه الحساسية في قاعة شبه فارغة؟ وأين كان النواب الغائبون في لحظة تتطلب منهم تحمل مسؤولياتهم الدستورية؟ هذا الغياب الكثيف لم يمر دون انتقادات، إذ اعتبره مراقبون إشارة إلى ضعف الالتزام البرلماني، خاصة في ظل مناقشة قوانين تؤثر على العدالة الجنائية وحرية الصحافة، وهما ركيزتان أساسيتان في أي نظام ديمقراطي.
المستجدات : خطوة إلى الأمام أم تراجع؟
مشروع قانون المسطرة الجنائية يحمل في طياته إصلاحات طموحة، مثل إلزامية حضور المحامي أثناء الاستماع للأحداث، تسجيل الاستجوابات بالصوت والصورة في الجنايات والجنح الكبرى، وتقليص مدد الاعتقال الاحتياطي. كما يعزز رقمنة الإجراءات القضائية ويوفر بدائل للدعوى العمومية، وهي خطوات تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. لكن الانتقادات لم تخلُ منه، خاصة في ما يتعلق بضوابط الحراسة النظرية والخوف من أن تؤدي بعض البنود إلى تقييد دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد.
من جهة أخرى، مشروع قانون المجلس الوطني للصحافة، الذي أُقر بعد نقاشات استمرت أكثر من 15 ساعة، يُنظر إليه على أنه محاولة لإعادة هيكلة القطاع الإعلامي. لكن معارضيه يرون أنه قد يمنح الحكومة نفوذاً أكبر على استقلالية الصحافة، مما يثير تساؤلات حول مدى التزام المغرب بتعزيز حرية التعبير. لكن على العموم هو قانون يُلزم الجميع بالمسؤولية الأخلاقية لممارسة المهنة وخدمة المجتمع.
صوت الشعب في مهب الريح!
إن المصادقة على هذه القوانين في ظل غياب أغلبية النواب ليست مجرد إخلال بالواجب البرلماني، بل رسالة مقلقة إلى المواطنين الذين يتطلعون إلى برلمان يعكس إرادتهم ويحمي مصالحهم. كيف يمكن لقوانين تتعلق بالعدالة وحرية الصحافة أن تكتسب الشرعية الكافية عندما تُقر في ظل هذا الغياب المثير للجدل؟
إن هذا المشهد يدعو إلى وقفة جادة من المجتمع المدني، الصحفيين، والمواطنين لمراجعة أداء المؤسسة التشريعية. فالقوانين التي تُصادق عليها أقلية لا يمكن أن تعكس إرادة الأغلبية، والبرلمان الذي يغيب عنه ممثلوه لا يمكن أن يكون صوتاً للشعب. يجب أن يتحمل النواب مسؤوليتهم الكاملة، وأن يدركوا أن غيابهم ليس مجرد مقعد خالٍ، بل صوت مواطن لم يُسمع.
منظور أوسع:
إن الدورة الربيعية البرلمانية لعام 2025، التي اختتمت بهذا المشهد، تتركنا أمام تساؤلات كبرى: هل يمكن لقوانين بهذه الأهمية أن تحظى بالثقة الشعبية عندما تُقر في ظل غياب النواب؟ وكيف يمكن للمغرب أن يواصل مسيرته نحو الديمقراطية في ظل هذه الفجوة بين الشعب وممثليه؟
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج المغرب إلى يقظة مجتمعية وإعلامية لضمان أن تكون القرارات التشريعية انعكاساً حقيقياً لإرادة الأمة. فلنطالب معاً ببرلمان يحضر أعضاؤه، ويمثل شعبه، ويصون حرياته. فهل سيكون هذا درساً للنواب لتحمل مسؤولياتهم في المستقبل، أم أننا سنظل نشهد قاعات شبه خالية تقرر مصير الأمة؟
Comments ( 0 )