“تيك توك” يعيد اختراع الحب : تأملات في أمل المستقبل

“تيك توك” يعيد اختراع الحب : تأملات في أمل المستقبل

 

 

 

يشهد مفهوم الحب في عصرنا الحديث تطورًا متسارعًا، متأثرًا بعوامل عدة، أبرزها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. فقد أظهرت الدراسات أن هذه الوسائل قد تلقي بظلالها السلبية على العلاقات العاطفية، إذ تعزز ظاهرة المقارنة غير الواقعية بين الأفراد. فعلى سبيل المثال، عندما يتابع أحد الشريكين محتوى يعرض أشخاصًا يتلقون اهتمامًا مبالغًا فيه من شركائهم، قد يميل إلى مقارنة علاقته الشخصية بتلك النماذج المثالية المصطنعة، مما يولد توقعات بعيدة عن الواقع ويضع تحديات جديدة أمام فهم الحب وتجربته.

 

اخر اختبارات الحب التي ضربت نبض العلاقات الإنسانية تلك التي ظهرت على “منصة تيكتوك” اختبارات غير تقليدية لقياس قوة العلاقة بين الشريكين. “نظرية تقشير البرتقال”، التي انتشرت بشكل واسع على التطبيق الصيني ، حيث تقوم النساء بطلب برتقالة من شركائهن، ثم يقيّمن مدى حبهم بناءً على ما إذا كان الشريك سيقوم بتقشيرها لهن أم لا. و غيرها كثير ..فتح باب السيارة و من سيتقدم لطلب خدمة و من سيسرق القبلة إلى حدود ارتكاب الجريمة لأجل الحب كما هو رائج بين الفتيات الايطاليات.

 

وفق خطة النظرية التكتيكية لمنصة “تيكتوك”، إذا قام الشريك بتقديم البرتقالة مقشرة وجاهزة للأكل، فهو شخص محب ومتفهم. أما إذا قدمها كما هي، فهو غير مبالٍ، وقد تكون هذه علامة تحذيرية لعدم جدية العلاقة. ورغم أن هذه الفكرة تبدو طريفة في ظاهرها، فإنها أثارت جدلا واسعا حول مدى صحة هذا النوع من الاختبارات في تقييم العلاقات.

 

حتى حدود هذا الاختبار التكتيكي للعلاقة يبدو الحبّ في زمننا متاحاً أكثر من أي وقت مضى، يكفي أن تقشر البرتقالة حتى تعبر عن حبك خاصة و أن هذا موسمه ” موسم البرتقال”.

 

لكن مع انتشار تطبيقات المواعدة ووسائل التواصل الاجتماعي وتزايد الحريات العامة. إلا أن الشعورٌ العام حول العالم، يتجه بالحبّ نحو البعد عنا يوماً بعد يوم، حيث أصبح الضجر والملل يتسللان سريعاً إلى المرتبطين، فيما يتساءل العازبون لماذا يصعب إيجاد الحبّ رغم فائض الإمكانيات التي يوفّرها زمن التواصل المفرط الذي نعيش فيه!؟

 

ماذا عن تاريخ الخبر قبل “التيكتوك”!

 

في الآونة الأخيرة، بات مصطلح “نهاية الحب” يتردد بكثرة بين المهتمين بعلم الاجتماع، ليس بمعنى تلاشي الحب كشعور، بل كإشارة إلى انتهاء الصورة الرومانسية التقليدية التي شكّلها القرن التاسع عشر من خلال الأدب والفنون، والتي لا تزال تهيمن على تصورات الكثيرين عن العاطفة.

فما الذي يقف وراء هذا الإحساس المتزايد الذي يُطلق عليه البعض “الجائحة العاطفية”؟ وهل حقًا قد دخلنا مرحلة تُعلن نهاية الحب كما عرفناه؟

 

ورطة الحب تفتح الطريق لقشور التيكتوك ..

 

إذا كنتِ امرأة تميلين عاطفيًا وجنسيًا إلى الرجال، فقد شعرتِ يومًا بالإحباط من هذا الميل بسبب خيبات الأمل التي تواجهينها معهم، والعكس ينطبق على الرجال أيضًا. هذا الشعور، الذي أُطلق عليه مؤخرًا “التشاؤم من العلاقات الغيرية” (Heteropessimism)، صاغته الكاتبة إنديانا سيريزن ليعبر عن الندم والإحباط من التجربة الغيرية دون التخلي عنها، مركزًا غالبًا على الرجال كمصدر للمشكلة. ينبع هذا التشاؤم من صور جندرية نمطية: النساء يشتكين من برود الرجال عاطفيًا أو شعورهم بالاستحقاق، بينما يتذمر الرجال من ضغط توقعات الرجولة التقليدية.

 

عالمة الاجتماع إيفا إيلوز ترى أن النساء، بسبب تربيتهن على الرعاية، يعلقن عاطفيًا أكثر، بينما يميل الرجال إلى الانفصال، متأثرين بتصورات القرن التاسع عشر التي ربطت العقلانية بالذكورة والعاطفة بالنساء. تزايد الوعي النسوي عزز استقلالية النساء، مما أضعف العلاقات الغيرية، بينما رد بعض الرجال بانتهاج مواقف رجعية، كما يظهر في “المانوسفير”، وهي مجتمعات رقمية تروج لآراء ذكورية أو مناهضة للنسوية، مثل “الإنسيلز” الذين يعبرون عن استيائهم بعنف أحيانًا. هذا الواقع، مع ارتفاع الطلاق وتراجع الزواج، عزز الشك في العلاقات الغيرية، مخلفًا إحساسًا بأن الفشل أصبح محتومًا.

 

ماذا عن نظريات الحب السابقة قبل تقشير البرتقال!؟

واحدة من النظريات المهمة التي تناولت تغير مفهوم الحب دون أن تستخدم تعبير “نهاية الحب” بشكل مباشر هي فكرة “الحب السائل” التي قدمها عالم الاجتماع زيغمونت باومان في كتابه عام 2003. لنبسط هذه الفكرة للجمهور بطريقة واضحة ومباشرة:

 

باومان يشبه الحب اليوم بالماء، شيء لا يستقر أو يحتفظ بشكله لفترة طويلة، على عكس المواد الصلبة التي تبقى قوية وثابتة. في نظره، العالم الحديث -الذي يسميه “الحداثة السائلة”- جعل العلاقات العاطفية هشة وغير مستقرة. في الماضي، كانت العلاقات قوية مثل الصخور، مدعومة بأشياء ثابتة كالأسرة والدين والتقاليد. أما الآن، فالحب أصبح مثل سلعة تشتريها من المتجر: إذا لم تعجبك، تستبدلها بسرعة.

 

يرى باومان أن الناس اليوم يعيشون تناقضًا: يريدون الحب والأمان، لكنهم يخافون من الالتزام لأنه يحد من حريتهم. يستند هنا إلى فكرة فرويد (1929) التي تقول إننا نضحي ببعض حريتنا لنعيش في مجتمع آمن، كمقايضة بين الحرية والاستقرار. لكن في “الحب السائل”، لا جذور لهذا الحب ولا التزام حقيقي، لأن المجتمع الحديث أصبح يفضل كل شيء مؤقت وسريع التغير.

 

باومان يقول إن “الحداثة السائلة” هي عالم بدون أوهام. الوهم القديم كان الاعتقاد أن التاريخ سيصل إلى نقطة ثابتة ومثالية. لكن اليوم، الناس تخلت عن هذا الحلم، ومعها بدأوا ينظرون إلى الحب “الصلب” -أي الدائم- كشيء قديم يقيدهم، بينما يبحثون عن حرية وحياة مليئة بالخيارات غير المحدودة. ببساطة، الحب السائل هو حب يعكس عالمًا سريعًا لا يؤمن بالثبات.

 

نزع السحر عن الحب بين الوفرة و الندرة..!

 

ترى عالمة الاجتماع إيفا إيلوز أن الرغبة كانت تتغذى على الندرة والممنوع، لكن في عصر الوفرة اليوم، تضعف التجربة العاطفية. في كتابها “نهاية الحب”، تصف هذا بـ”نزع السحر عن الحب”، أي فقدانه لقدسيته التي ربطته تاريخيًا بالحب الإلهي ، حيث كان مطلقًا وفريدًا. اليوم، بفعل العقلانية والعلم، تحول الحب من شيء ساحر إلى سلعة أو موضوع دراسة، كأن نرى شجرة ليست كائنًا مقدسًا بل مجرد مادة للورق.

منذ القرن العشرين، مع التحليل النفسي وعلم الأحياء، صار الحب مجرد “تفاعل هرموني” في نظر البعض، خاصة الشباب. هذا التحول إلى معرفة وتسويق جرد الحب من براءته. تقول إيلوز إن “نهاية الحب” هي نهاية الإيمان به، مشبهة إياه بالإيمان الديني الذي كان يحمله.

 

سوق الحب و تحولاته ..!

 

ترى إيفا إيلوز أن “زوال الحب” يعكس أزمة ثقافية وحضارية، حيث تتجلى في العلاقات العاطفية تغيرات اجتماعية أوسع. تشير إلى أن مساءلة الأدوار الجندرية وتحولاتها، خاصة في العقود الأخيرة، أثرت على الحب. حتى الحرب العالمية الثانية، كان الحب والزواج والجنسانية مترابطة، وهو إرث الرومانسية التي حررت الحب من التقاليد. لكن منذ الستينيات، مع الحريات الجنسية والحركات النسوية، انفصلت هذه العناصر، فأصبحت المسارات الجنسية والرومانسية لا تتماشى دائمًا مع الزواج.

تقول إيلوز إن هذا “التحرر” تحول إلى خضوع لمنطق السوق والاستهلاك، حيث تحكم الخوارزميات وتطبيقات المواعدة خيارات الشريك، مما قلل من فرص “الوقوع” في الحب التلقائي. الحب “المجنون” صار نادرًا، وطغت نزعة “عدم الالتزام” أو “خيار عدم الاختيار” على العلاقات اليوم.

باتت تطغى على الأفراد نزعة إلى عدم الالتزام، أو ما تسمّيه إيلوز تحديداً “خيار عدم الاختيار”.

 

من وجهة نظر أخرى يرى الفيلسوف بيونغ-تشول هان أن أزمة الحب تنبع من “تآكل” الآخر، وليس من وفرته كما ترى إيلوز. في عالم يركز على الذات، يصبح الآخر مجرد أداة لتأكيد الفرد وليس مصدر رغبة أو انفتاح، فتتحول العلاقات والجنس إلى استهلاك ومتعة ميكانيكي حسية خالية من الحب. في كتابه “مجتمع الاحتراق الوظيفي”، يشير إلى أن هوس الإنجاز والنرجسية أديا إلى الإرهاق والاكتئاب، حيث نستغل أنفسنا ذاتيًا دون حاجة لضغط خارجي، فنصبح سادة وعبيدًا لأنفسنا في صراع داخلي مستمر.

 

علاقتنا بالحب أصبحت مرآة نجاح ؟؟

في المجتمعات الحديثة، انتقلنا من قمع خارجي إلى ضغط داخلي يدفعنا للإنجاز المستمر. ريناتا ساليكل ترى أننا، في ظل الإتاحة الكاملة، نصنع قيودًا ذاتية. هذا الهوس بالنجاح يمحو “الآخر”، كما يقول هان، فتنهار العلاقات ويتلاشى الحب تحت وطأة النرجسية. في “محنة إيروس”، يوضح أن الفرد، محاصرًا في ذاته، يفقد القدرة على الانفتاح للآخر، عالقًا في دائرة مغلقة تُفرغ العلاقات من معناها.

 

منظور أوسع لقلب يتسع للحب و علاقات قوية:

 

أمام هذا الواقع الذي قد يبدو في ظاهره مظلماً، يظل هناك شعاع من الأمل يضيء دروبنا، داعياً إيانا للتمسك بإيماننا بالحب وإمكانياته اللامتناهية. ففي السعي نحو بناء علاقات عميقة ومعنوية مع الآخرين، بعيداً عن دوائر الإشباع اللحظي أو المصالح العابرة، نجد طريقاً لتجاوز هذه التحديات، بل وربما لتحويلها إلى فرص للنمو والتجدد.

ويبدو أن استعادة القدرة على التأمل، والانفتاح على ما يسميه هان “الملل العميق”، ليست مجرد هروب من ضغوط الحياة اليومية، بل دعوة لاستكشاف أعماق الذات واكتشاف معانٍ جديدة للوجود. ففي هذا السكون الخلاق، بعيداً عن صخب الإنتاجية المفروضة، قد نجد مساحة لإعادة صياغة علاقتنا بالعالم وبالآخرين.

حتى لو بدا أن الحب بصورته التقليدية قد تلاشى، فإن هذا لا يدعو إلى اليأس، بل إلى التفاؤل بإمكانية بداية جديدة. وكما قال الشاعر الفرنسي آرتور رمبو بجرأة وحماس: “الحبّ، علينا أن نُعيد اختراعه”. فلعل اللحظة الحالية هي دعوة مفتوحة لنا جميعاً لنرسم معالم حب جديد، ينبض بالحياة والأمل، ويتناغم مع تطلعات المستقبل.

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .