حين تصبح الكفاءة سلعة تُصدّر… والمجد يُستورد!
مع بداية كل صيف، يتكرّر المشهد ذاته: وسائل الإعلام تنشر بفخر صورًا لشباب مغاربة، حازوا على مقاعد في أرقى المدارس الفرنسية.
هذا العام، 50 تلميذًا مغربيًا في المدرسة متعددة التخصصات (École Polytechnique)، 38 منهم قادمون من “ثانوية التميز” بابن جرير.
التفاعل العام؟ هتافات فرح، عناوين براقة، رسائل تهنئة، وأوسمة افتراضية على مواقع التواصل.
لكن، وسط كل هذا الضجيج، يفرض سؤال بسيط نفسه:
هل فعلاً هذا إنجاز وطني؟
أن تنجح الدولة في تكوين أدمغة شابة، هذا جيد.
لكن، أن تكون هذه الأدمغة مبرمَجة سلفًا على الهجرة الدائمة، وأن تتوهج في مختبرات باريس بدل مختبرات الرباط… فهنا تبدأ المأساة المقنّعة.
“بوليتكنيك” ليست تتويجًا، بل بداية اغتراب.
ماذا تعني هذه المدارس؟
إنها ببساطة تأشيرة راقية لمغادرة الوطن…
نموذج من التكوين العالي، نعم، لكنه مخصص لاقتصاد غير اقتصادنا، لنهضة غير نهضتنا، ولسوق شغل لا يحمل اسمنا ولا لغتنا.
والسؤال المؤلم: هل سيعودون؟
ربما، لكن كخبراء مؤقتين، أو كمسيرين إداريين، حينما تناديهم الدولة العاجزة عن صُنع أمثالهم من جديد.
“عندما نُصدّر أبناءنا كالأفوكادو والسمك”
الاحتفاء بالمهاجرين ذوي الكفاءات تحوّل إلى جزء من البروباغندا الوطنية:
– عندما نريد بيع صورة “التعليم الناجح”، نسلّط الضوء على “أبناء بوليتكنيك”.
– وعندما نُنتقد على فشل المنظومة، نقول: “النظام يحتاج إلى إصلاح جذري!”
هذا ليس تضاربًا في الخطاب فقط، بل نفاق مؤسسي ممنهج.
النجاح الفردي يُقدّم كنجاح جماعي، فيما الواقع يُشير إلى أن الكفاءات تُستنزف بصمت.
فرنسا تغيّر الأسلوب… لكن الغاية نفسها
فرنسا لم تعد بحاجة إلى جنود أو مستعمرين…
فهي الآن تستورد ما هو أغلى: العقول.
تبحث عن المهندسين كما كانت تبحث عن الفوسفات والذهب.
تمنح عقد عمل بدلًا من مدرعة، وتربح أكثر، وبتكلفة أقل.
الوقت ليس للاحتفال… بل للمساءلة
ما الذي نريده من شبابنا؟
– أن يتفوقوا… نعم.
– أن يسافروا… لا بأس.
لكن أن يعودوا، ليبنوا وطنًا ينتظرهم، لا أن يظلوا مجرد أسماء على لائحة شرف أجنبية.
إنها ليست دعوة للانغلاق، بل دعوة لصياغة مشروع وطني يحتضن الطاقات، لا يُفرط فيها.
الاحتفال مشروع، لكن حين يُقترن بسياسات عودة، بإرادة إصلاح جذري، وبمنظومة تعليمية لا تُصدّر أبناءها كسلعة ممتازة.
وإلا، سنبقى نُصفق عند المغادرة، ونُصفع عند النتائج.
بين مطار المغادرة… ومشروع العودة
في كل حفل وداع، نُصفّق بحرارة… لكن في كل لحظة بناء، نفتقد اليد التي غادرت.
ليس في الأمر خيانة، ولا في الطموح عيب. لكن الخسارة الحقيقية تكمن حين يصبح الحلم فردياً، والانتماء مؤقتاً، والعودة استثناءً نادراً.
إن الكفاءات الوطنية لا تُقاس بعدد تأشيراتها، بل بقدرتها على تحويل معرفتها إلى نهضة جماعية.
وحتى نمتلك مشروعاً يستحق هذه العقول، سيبقى المطار مزدحماً بالمسافرين… فارغاً من العائدين.
فهل نكتفي بمجد مُعار، أم نبني مستقبلًا يليق بمن يصنعونه؟
Comments ( 0 )