خدعوك فقالوا: رحلة عبر أمواج التضليل إلى شاطئ الحقيقة
في زمن تتلاطم فيه أمواج المعلومات في بحر الفضاء الرقمي، يجد المواطن نفسه عالقًا بين تيارات متضاربة: أخبار زائفة تتسلل بعناوين براقة، ونظريات مؤامرة تُنسج بخيوط الإثارة، وخدع محترفة تستهدف عقولنا لتحقيق مكاسب مالية أو نفوذ سياسي. عبارات مثل “خدعوك فقالوا” أو “كشف الحقيقة” أصبحت شعارات يومية، لكنها غالبًا تخفي وراءها محاولات للتلاعب بتصوراتنا. فكيف يمكننا أن نميز بين خدعة متقنة ونظرية مؤامرة واهية؟ وكيف يواجه المغرب، بطموحه الإصلاحي الإعلامي، هذا التحدي في ظل سعيه لبناء إعلام مسؤول يحترم ذكاء المواطن؟
الرحلة نحو الحقيقة تبدأ بخطوة بسيطة: التريث. عندما تصادفنا رواية تتحدى ما نعرفه، لا نسارع إلى تصديقها أو تكذيبها. بدلاً من ذلك، نأخذ نفسًا عميقًا ونطالب بالدليل. هذا التوقف الواعي يحمينا من فخ الإثارة العابرة التي تُغذيها فيديوهات مصممة لجذب الانتباه أو عناوين صاخبة تفتقر إلى الجوهر. لكن التريث وحده لا يكفي. الحس السليم هو بوصلتنا الثانية. إذا كانت فكرة ما تحظى بقبول فئة ضيقة فقط، بينما ترفضها الأغلبية، فهذا إشارة إلى أنها قد تكون بعيدة عن الحقيقة. الحقائق، في أغلب الأحيان، تتسق مع ما يراه العقل الجمعي منطقيًا، بعيدًا عن الروايات المتطرفة التي لا تستند إلى أرضية مشتركة.
لكن دعونا لا ننسى: العالم ليس مسرحًا لخطط مثالية. النظريات التي تصور مؤامرة سلسة، تنفذ دون أي عثرة، غالبًا ما تكون خيالية. الواقع معقد، مليء بالمفاجآت والتحديات غير المتوقعة. أي خطة، مهما كانت دقيقة، لا يمكن أن تسير دون عقبات. إذا كانت الرواية لا تعكس هذا التعقيد، فهي على الأرجح مجرد قصة مشوقة لا أكثر. وأخيرًا، هناك قاعدة ذهبية: الحقيقة يجب أن تكون قابلة للاختبار. أي سردية لا يمكن دعمها بأدلة ملموسة ينبغي أن تُواجه بالشك. الحقيقة لا تعيش في الفراغ، بل تحتاج إلى أعمدة من الوقائع يمكن فحصها والتأكد منها.
في المغرب، يتجلى هذا التحدي في قلب مشروع إصلاحي طموح يسعى إلى إعادة تشكيل المشهد الإعلامي. مشروع القانون 026.25، الذي يعيد تنظيم المجلس الوطني للصحافة، ليس مجرد تعديل تشريعي، بل رؤية شاملة تهدف إلى بناء إعلام مسؤول ومستقل. بعد سبع سنوات من التقييم، كشف المشروع عن ثغرات قانونية وتنظيمية أثرت على مصداقية المجلس، فجاء ليعزز شفافيته ويمنحه صلاحيات أوسع لضبط المهنة ومواجهة تحديات العصر الرقمي. من خلال إنشاء لجان دائمة لأخلاقيات المهنة، الوساطة، تأهيل المقاولات الصحفية، والتكوين، يرسم القانون خريطة طريق لبيئة إعلامية عادلة ومستدامة، تحترم ذكاء المواطن وتعزز ثقته في الإعلام.
لكن التحديات لا تنتهي بسن القوانين. فمنتحلو صفة الصحفيين، الذين يستغلون الفضاء الرقمي لنشر التضليل، يشكلون عائقًا كبيرًا. هؤلاء، بدعم من أصحاب المصالح أحيانًا، يحاولون تقويض الثقة في الإصلاحات، في وقت تتسع فيه الهوة بين الرأي العام المتعطش للحقيقة والسياسات الحكومية التي تسعى لمواكبة تطلعات الأمة. حرية التعبير، التي بناها المغرب بعناية على مر السنين، تتطلب اليوم توازنًا دقيقًا: الانفتاح دون فوضى، والمسؤولية دون قيود. فكيف يمكننا أن نواكب هذا التطور؟
الإجابة تكمن في تمكين المواطن والصحفي معًا. المواطن بحاجة إلى ثقافة إعلامية تمكنه من غربلة المعلومات، فيميز الحقيقة من الزيف. والصحفي بحاجة إلى بيئة مهنية تشجع الابتكار والاستقلال، بعيدًا عن ضغوط المصالح الضيقة. مشروع القانون الجديد يضع الأسس لهذا التحول، من خلال تنظيم المقاولات الصحفية، وضمان تمثيلية ديمقراطية في المجلس، وتعزيز الشفافية عبر آليات واضحة للمساءلة. لكن نجاح هذه الرؤية يتطلب تضافر الجهود. البرلمان، الذي لم يتمكن بعد من مواكبة هذا الزخم بطرح حلول بديلة، والنقابات المهنية، التي استنفدت جزءًا من طاقتها النضالية، مدعوون للعب دور أكبر في هذا التحول التاريخي.
عبور بحر التضليل ليس بالأمر السهل، لكنه ممكن إذا تمسكنا ببوصلة التريث، الحس السليم، فهم تعقيد العالم، والإيمان بالأدلة. في المغرب، يمثل الإصلاح الإعلامي سفينة الأمل التي تحملنا نحو شاطئ الحقيقة. إنه مشروع يتجاوز التشريعات ليصبح رؤية وطنية، تجمع المواطنين، الصحفيين، والمؤسسات في سعي مشترك لبناء إعلام يعكس طموحات أمة تسعى للريادة إقليميًا وقاريًا.
فلنبحر معًا، بحذر ووعي.
Comments ( 0 )