دار السلطان بآسفي: أيقونة تراثية تئن تحت وطأة الإهمال!
في قلب مدينة آسفي، حاضرة المحيط، تقبع دار السلطان، أو القصبة العالية، كشاهدٍ صامتٍ على عراقة التاريخ المغربي. هذه المعلمة التاريخية، التي صمدت لثمانية قرون، واكبت تحولات المغرب منذ العصور الوسطى إلى التاريخ المعاصر، لتظل رمزًا للهوية الوطنية والإبداع الحضاري.
لكن، ويا للأسف، هذا الحصن الأثري الذي شهد أمجاد الدولة الموحدية، وتحصن ضد الغزو البرتغالي، وأبهر بفن العمارة الموريسكية في قصر الباهية، يعيش اليوم في ظل إهمالٍ مخجل، تتسع شقوقه، وتتآكل أسواره، بينما تحاصره الأزبال والحشائش في صمتٍ مريب.
تأسست دار السلطان في القرن الثاني عشر خلال عهد الدولة الموحدية، لتكون حصنًا عسكريًا يحمي الساحل المغربي. شهدت أسوارها سيطرة البرتغاليين بين 1508 و1541، الذين تركوا بصمتهم عبر نقوش شعار الملك مانويل الأول. بعد تحريرها على يد السعديين، زُوّد الحصن بمدافع هولندية وإسبانية، ليصبح رمزًا للقوة العسكرية المغربية. في القرن الثامن عشر، أضاف الأمير العلوي مولاي هشام قصر الباهية، وهو تحفة موريسكية تعكس الذوق الفني الرفيع. خلال الاحتلال الفرنسي، تحول الحصن إلى مكتب إداري يُعرف بـ”بيرو عراب”، قبل أن يصبح في عام 1990 مقرًا للمتحف الوطني للسيراميك، ثم بعدها مديرية الثقافة لآسفي واليوسفية.
هكذا، كانت دار السلطان مرآة لتاريخ المغرب، تجمع بين الوظيفة العسكرية والدبلوماسية والثقافية. صُنّفت كمعلمة أثرية وطنية منذ 1922، لكن هذا التصنيف لم ينقذها من الإهمال الذي بات يهدد وجودها.
مشهد الخراب: جولة في أنقاض التراث
خلال تجوالنا حول دار السلطان، كنت أحمل كاميرا لالتقاط صور تُخلّد جمال هذه الأيقونة. لكن ما رأته عيناي كان صادمًا: تشققات عميقة تسري في الأسوار، أحجار متآكلة، حش، وحشائع تنبت بين الفجوات، وأكوام من الأزبال تحيط بالمكان. هذا الحصن، الذي صمد أمام غزوات وحروب، ينهار اليوم ليس بفعل الزمن، بل بسبب غياب الرعاية والمسؤولية.
أين المسؤولون؟ أين الفاعلون الثقافيون في حاضرة المحيط؟
لماذا تُترك هذه المعلمة لتصبح مجرد خلفية لصور “سيلفي” عابرة، بينما تتسع شقوقها وتزداد أنينها؟
صمت مريب ومسؤولية جماعية،
إن إهمال دار السلطان ليس مجرد تقصير إداري، بل هو خيانة لتاريخ الأمة. هذه المعلمة، التي كانت مركزًا للدفاع والدبلوماسية والثقافة، تُركت لتفقد وظيفتها، بينما يقتصر دورها اليوم على استقبال زوار عابرين أو استضافة فعاليات موسمية لا ترقى لقيمتها التاريخية.
أين الخطط الجادة لترميم هذا الحصن؟ أين المبادرات الثقافية التي تجعل منه مركزًا حيًا للإبداع والتعليم؟ لماذا يُترك ليغرق في الفوضى بينما نتباهى بتراثنا في خطابات جوفاء؟
دار السلطان ليست مجرد أحجار وأسوار؛ إنها رمز لهويتنا وذاكرتنا الجماعية. إنقاذها يتطلب تحركًا عاجلاً ومسؤولية مشتركة بين السلطات المحلية، والمجتمع المدني، والفاعلين الثقافيين. يجب وضع خطة ترميم شاملة، وإعادة تأهيل الحصن ليكون مركزًا ثقافيًا وتعليميًا يجذب الباحثين والسياح. كما يمكن استثمار موقعه الاستراتيجي على ساحل آسفي لإحياء النشاط الثقافي في المدينة، وتعزيز الوعي بأهمية التراث.
إن صمتنا على هذا الإهمال هو تواطؤ في محو تاريخنا!
نطالب باعتبارنا صحافة للحلول بإنقاذ دار السلطان قبل أنّفقدها إلى الأبد. فهل ستظل حاضرة المحيط شاهدة على خراب أيقونتها، أم سنكتب لها فصلاً جديدًا من الصمود والإبداع؟
Comments ( 0 )