دوامة العنف و اعتراض المارة باليد المسلحة: غياب الأب، البطالة، المثلية والصراع الطبقي كمحركات للجريمة
موجة العنف تكتسح الشوارع!
شهدت شوارع المدن المغربية، في الآونة الأخيرة على تصاعد مقلق في حوادث الضرب والجرح التي لا تقتصر على السرقة كدافع أساسي، بل تتجاوزها إلى أعمال عنف تبدو عشوائية وغير مفهومة في كثير من الأحيان. هذه الظاهرة، التي أثارت ذعراً متزايداً بين المواطنين، تطرح اليوم أسئلة ملحة حول دوافعها العميقة. فهل يمكن إرجاع هذا العنف إلى غياب سلطة الأب في الأسرة؟ أم أن الصراع الطبقي بين أبناء الأحياء الشعبية وغيرهم يشكل محركاً رئيسياً؟ وهل البطالة المتهمة في هذه الجرائم؟ أم أن هناك عوامل اجتماعية ونفسية أخرى، مثل انتشار حالات المثلية الجنسية أو تزايد الإنجاب خارج إطار الزواج، تلعب دوراً في هذا السياق؟ في ظل صمت المحللين النفسيين وتردد الإعلام في مناقشة هذه القضايا بعمق، سنحاول في هذا السياق تسليط الضوء على هذه الظاهرة المتنامية، مع التركيز على دوافعها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية المحتملة.
غياب سلطة الأب: هل هو المحرك الأساسي؟
في الأوساط الشعبية، يُشار إلى العديد من مرتكبي الجرائم بأسماء مثل “ولد فلانة” أو “بنت فلانة بنت علان” في إشارة رمزية إلى غياب الأب كسلطة تربوية واجتماعية. هذا الغياب، سواء بسبب الهجرة، الطلاق، أو الإهمال الأسري، يترك فراغاً كبيراً في بنية الأسرة. الأب، الذي يُنظر إليه تقليدياً كرمز للانضباط والتوجيه، غالباً ما يكون دوره حاسماً في تنشئة الأبناء، خاصة في المجتمعات ذات الطابع الأبوي.
تتفق الدراسات السوسيولوجية على أن غياب الأب قد يؤدي إلى اضطرابات سلوكية لدى الأطفال، مثل العدوانية أو الانحراف، خاصة في بيئات تفتقر إلى الدعم الاجتماعي. في الأحياء الشعبية، حيث أصبحت الأم غالباً العائل الوحيد لعدد لا يستهان به من الأسر، يواجه الأبناء في حياتهم اليومية ضغوطاً نفسية واجتماعية قاهرة و نظرة مجتمعية دونية تدفعهم في غالب الظروف إلى البحث عن “الهوية” أو “القوة” و “حب الظهور” في الشارع، حيث تتوفر الظروف لتشكل العصابات و إنتشار ثقافة العنف التي تغذيها الاغاني الرخيصة و تسيب مواقع التواصل الاجتماعي و تمردها على قيم المجتمع. لكن، هل يمكن تحميل غياب الأب المسؤولية الكاملة؟ الجواب ليس بهذه البساطة، إذ إن عوامل أخرى، مثل الفقر والبطالة، تلعب دوراً متشابكاً في دعم هذا الاضطراب.
الصراع الطبقي: معركة الأحياء الشعبية!
يُنظر إلى العنف في الأحياء الشعبية أحياناً كتعبير عن صراع طبقي ضمني بين من وُلدوا في إطار أسري مستقر ومن نشأوا خارج هذا الإطار، خاصة أولئك الذين وُلدوا نتيجة الإنجاب خارج الزواج. هؤلاء الأفراد، الذين غالباً ما يعانون من الوصم الاجتماعي، يشعرون بالإقصاء من المجتمع، مما يولد شعوراً بالاستياء تجاه “الغير” الذي يُنظر إليه كجزء من طبقة أكثر استقراراً.
في سياق الأحياء الشعبية، حيث تتفاقم الفوارق الاجتماعية، يصبح العنف أداة للتعبير عن الغضب أو إثبات الذات. على سبيل المثال، الهجمات العشوائية على المارة في الشوارع قد تكون محاولة لفرض “السيطرة” على بيئة يشعر فيها الجاني بالتهميش. هذا الصراع الطبقي لا يقتصر على الجانب المادي، بل يمتد إلى الجانب الثقافي، حيث تتصادم قيم الأحياء الشعبية مع القيم السائدة في المجتمع الأوسع، مما يعزز الانقسام والتوتر.
المتهم الرئيسي حتى الآن:البطالة محرك الجريمة أم عامل مساعد؟
تضل البطالة من العوامل الرئيسية التي يشار إليها عند تحليل ارتفاع معدلات الجريمة في المغرب، خاصة بين الشباب. وفقاً لتقارير رسمية، بلغت نسبة البطالة بين الشباب في المناطق الحضرية حوالي 20% في السنوات الأخيرة، وهي نسبة مرتفعة بشكل خاص في الأحياء الفقيرة و ترتفع باتجاه المناطق المعتمة. غياب فرص العمل يؤدي إلى الإحباط والشعور باليأس، مما قد يدفع البعض إلى اللجوء إلى الجريمة كوسيلة لتأمين العيش أو كتعبير عن الرفض الاجتماعي.
لكن، كما أشار الخبير الأمني محمد بنحمو في أحد تصريحاته للصحافة، فإن البطالة ليست العامل الوحيد. الجريمة، وإن كانت مرتبطة بالظروف الاقتصادية، تتأثر أيضاً بـ”غياب الضمير والخلل في التربية”، إلى جانب تأثيرات خارجية مثل وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تعزز ثقافة العنف.. بالتالي، فإن البطالة، رغم أهميتها، تظل جزءاً من معادلة أكثر تعقيداً.
الطابو..المثلية الجنسية: شائعات أم واقع؟
في بعض الأوساط الشعبية و مراكز إعادة إدماج القاصر، يُشار إلى المثلية الجنسية كعامل محتمل في تصاعد العنف، حيث يُزعم في هذه الأوساط كما تقول الألسن (ال.ز.ا.م.ل يحبس درب) بمعنى ان أفراد هذه الفئة يمارسون العنف كوسيلة لفرض “السيطرة” أو “الإغلاق” على الشارع. هذا الادعاء، الذي يفتقر إلى أدلة علمية أو إحصائية واضحة، يعكس غالباً تحيزات اجتماعية وثقافية تجاه المثليين في المجتمع.
في الواقع، تشير تقارير منظمات حقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش، إلى أن الأفراد المثليين عندنا غالباً ما يكونون ضحايا العنف بدلاً من مرتكبيه، حيث يواجهون الاعتداءات والتمييز بسبب توجهاتهم الجنسية. على سبيل المثال، في قضية بني ملال عام 2016، تعرض رجلان مثليان لهجوم عنيف، ليتم لاحقاً محاكمتهما بتهمة “الشذوذ الجنسي” بدلاً من معاقبة المعتدين بشكل صارم.. هذا يشير إلى أن ربط المثلية بالجريمة قد يكون محاولة للوصم أكثر من كونه تحليلاً موضوعياً يضرب في صحة الادعاءات وولو أثبتها واقع الحوادث المتتالية، لكن على العموم يبقى للمجتمع الفصل في هذا الأمر برأيه أن مرتكبي هذه الجرائم لا يتسمون بالرجولة المتعارف عليها.
العنف في المدارس..الوجه الآخر للظاهرة!
بلغت موجة العنف في المغرب حدوداً خطيرة، حيث امتدت إلى المؤسسات التعليمية. بعد الحادثة المأساوية لوفاة أستاذة تنغير متأثرة بجروح أصابها بها تلميذ بعد محاولته التحرش بها ووهو الحاث الذي أثار صدمة واسعة. هذه الحادثة تسلط الضوء على تفاقم ظاهرة العنف ضد الأساتذة، التي ترتبط أحياناً بالتنمر والاضطرابات السلوكية بين التلاميذ.
تشير دراسات في هذا الإتجاه إلى أن العنف في المدارس قد يكون انعكاساً للتحديات الأوسع في المجتمع، مثل تفكك الأسرة، غياب القيم التربوية، والتعرض لمحتوى عنيف عبر وسائل التواصل الاجتماعي. في الأحياء الشعبية، حيث تكون الموارد التعليمية و المرافق الرياضية محدودة، حيث يجد التلاميذ أنفسهم في بيئة تفتقر إلى الانضباط، مما يعزز السلوكيات العدوانية..
لماذا الأحياء الفقيرة بالذات؟
و لماذا لم تطل موجة العنف المدارس الخصوصية؟
تركزت ظاهرة العنف الاخير بشكل ملحوظ في الأحياء الفقيرة، حيث تتفاقم التحديات الاجتماعية والاقتصادية. الفقر، الاكتظاظ السكاني، وقلة الفرص التعليمية والمهنية حيث تشكلت بيئة مواتية للجريمة- و هذا ما نبهنا إليه في أكثر من مقال- إضافة إلى ذلك، فإن غياب المرافق الثقافية والترفيهية مع انتشار اشكال المخدرات المُهيجة يترك الشباب بدون منافذ إيجابية لتوجيه طاقاتهم، مما يدفعهم إلى الشارع حيث تنتشر العصابات والمخدرات.
كما أن الوصم الاجتماعي الذي يطال أبناء الأحياء الشعبية، خاصة أولئك الذين وُلدوا خارج إطار الزواج، يعزز شعورهم بالإقصاء، مما قد يتحول إلى عدوانية تجاه المجتمع. هذه الديناميكية تجعل الأحياء الفقيرة مسرحاً رئيسياً للعنف، ليس فقط بسبب الظروف المادية، بل أيضاً بسبب التراكمات النفسية والاجتماعية.
صمت المحللين والإعلام.. لماذا التجاهل؟
على الرغم من خطورة هذه الظاهرة، يظل النقاش العام حولها محدوداً. المحللون النفسيون، الذين يفترض أن يقدموا تفسيرات علمية للدوافع وراء العنف، غالباً ما يتجنبون الخوض في هذه القضايا الحساسة خوفاً من الاصطدام بالتحيزات الاجتماعية أو السياسية. في المدارس حاولت الإدارة الزجر بأعمال البستنة!أما الإعلام، فغالباً ما يكتفي بنقل الأخبار السطحية، مثل بث لقطات كاميرات المراقبة، دون تحليل عميق للأسباب الجذرية.
هذا الصمت يعكس تحدياً أكبر يتمثل في غياب استراتيجية وطنية شاملة لمعالجة العنف. فبدلاً من التركيز على الوقاية من خلال تحسين التعليم، توفير فرص العمل، وتعزيز الدعم النفسي والاجتماعي، يظل التعامل مع الجريمة مقتصراً على الإجراءات الأمنية،التي تضع الجهاز الأمني في الواجهة و التي قد تكون فعالة على المدى القصير لكنها لن تعالج الأسباب الجوهرية.
منظور أوسع:
تصاعد العنف في المغرب ليس ظاهرة معزولة، بل نتيجة تفاعل معقد بين عوامل اجتماعية، اقتصادية، ونفسية. غياب سلطة الأب، الصراع الطبقي(المقيت)، البطالة، والتحديات المرتبطة بالأحياء الفقيرة كلها عوامل تسهم في هذه الدوامة. ومع ذلك، فإن تحميل أي من هذه العوامل المسؤولية الكاملة سيكون تبسيطاً مخلاً وغير مكتمل.
لمعالجة هذه الظاهرة، يتطلب الأمر نهجاً شاملاً يشمل تحسين الظروف الاقتصادية، تعزيز دور الأسرة والمدرسة في التربية، وتوفير الدعم النفسي للشباب. كما أن الإعلام مدعو للعب دور أكثر فاعلية في توعية المجتمع ومناقشة هذه القضايا بجرأة وموضوعية. إن تجاهل هذه الظاهرة لن يؤدي إلّا إلى تفاقمها، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي ويعمق الفجوة بين مكونات المجتمع الواحد.
Comments ( 0 )