سرية التحقيق: حارس الحقيقة في مواجهة الظلام
في أروقة القضاء المغربي، حيث تتقاطع خيوط الشكوك والأدلة لتشكل نسيج الحقيقة، تبرز “سرية التحقيق” كركيزة أساسية ليس فقط لضمان نزاهة العملية القضائية، بل كحارس يحمي الضحايا والشهود من التهديدات المظلمة. ليست سرية التحقيق مجرد قاعدة إجرائية جامدة، بل هي آلية حيوية تضمن وصول العدالة إلى خبايا الجرائم، خاصة في قضايا مثل وفاة الطفل الراعي محمد بويسلخن (المعروف إعلاميًا بـ”محمد إينو”)، حيث أثارت الظروف الغامضة للوفاة في جماعة أغبالو أسردان بإقليم ميدلت تساؤلات عميقة حول جريمة قتل عمد محتملة. هنا، في سياق يجمع بين الشفافية والحماية، تكمن أهمية هذه السرية كحل صحفي يسلط الضوء على كيفية بناء عدالة مستدامة، بعيدًا عن الاستغلال الإعلامي أو الضغوط الخارجية.
سرية التحقيق: أداة لكشف الحقيقة
في قانون المسطرة الجنائية المغربي، يُنص على سرية إجراءات البحث والتحقيق بموجب المادة 15، التي تجعل الأبحاث والتحريات والإجراءات المتعلقة بالتحقيق الإعدادي سرية مطلقة. هذا النص ليس اعتباطيًا؛ إنه يهدف إلى حماية عملية جمع الأدلة من التدخلات الخارجية، مما يتيح لقاضي التحقيق – كما في قضية محمد إينو، حيث انعقدت أولى جلسات التحقيق في 28 غشت 2025 بمحكمة الاستئناف بالرشيدية – التركيز على استكشاف الحقائق دون ضغوط خارجية. فبدون هذه السرية، قد يصبح التحقيق عرضة للتسريبات التي تسمح للمشتبه بهم بتعديل رواياتهم أو إخفاء الأدلة، مما يعرقل الوصول إلى “الحقيقة القضائية الجماعية” التي يتحدث عنها محامو العائلة.
أما أهميتها العملية، فتكمن في كونها تحمي الشهود والأطراف المتدخلة. في قضية محمد بويسلخن – التي تبرز فيها أهمية السرية كأداة للتحقيق – أفادت الأم بتعرضها لتهديدات يومية، بما في ذلك تخويف أبنائها الآخرين، ووجود أطفال آخرين شهدوا الحادث لكنهم يخشون الإدلاء بشهاداتهم بسبب الضغوط. هنا، تتحول سرية التحقيق إلى درع يحمي هؤلاء الشهود من التهديدات على حياتهم أو عائلاتهم، ويمنع اتلاف وسائل الإتباث المادية أو الوثائق. كما أنها تمنع تسرب المعلومات إلى المشتبه بهم، مما يدرأ خطر فرارهم أو تهربهم من العدالة، كما حدث في حالات سابقة أثارت جدلاً حقوقيًا واسعًا. بهذا، تصبح السرية ليست قيدًا، بل ضمانًا لفعالية التحقيق، حيث يمكن لقاضي التحقيق توجيه الإجراءات نحو جمع حجج كافية لإعادة الملف إلى النيابة العامة لتوجيه الاتهامات الصارمة.
التوازن بين السرية والشفافية: حلول صحفية لعدالة مستدامة
ومع ذلك، ليست سرية التحقيق مطلقة؛ إنها متوازنة بضمانات قانونية تحمي حقوق الدفاع والأطراف. يُسمح للمحامين بالمشاركة الفعالة، كما أكد محامي عائلة إينو، الأستاذ صبري الحو، في بلاغاته للرأي العام، حيث يؤكد على دور الدفاع كشريك أساسي في “صناعة الحقيقة”، مع الحفاظ على السرية لتجنب الإضرار بالتحقيق. هذا التوازن يعكس فلسفة التحقيق كعملية تشاركية، تشمل النيابة العامة، قاضي التحقيق، والدفاع، تحت رقابة غرفة المشورة ومحكمة النقض، لضمان عدم تحول السرية إلى ستار يخفي التقصير.
من منظور صحافة الحلول، حيث نركز على اقتراحات عملية بدلاً من التشخيص السلبي، يمكن تعزيز أهمية هذه السرية من خلال مبادرات تشجع على الشفافية الجزئية بعد انتهاء التحقيق، حيث يمكن للقضاء إصدار تقارير عامة موجزة عن الإجراءات الشكلية – مثل تاريخ الجلسات والطلبات المقدمة – دون الكشف عن الجوهر، كما تفعل هيئة دفاع المتقاضين في بلاغاتها التوضيحية. كذلك، يُنصح بتعزيز دور الجمعيات الحقوقية، في مراقبة التحقيقات دون انتهاك السرية، لضمان استقلالية الشرطة القضائية. هذه الحلول ـ قد ـ تحول السرية من عقبة إلى جسر يربط بين الحماية الفورية والعدالة الشاملة، مما يعزز ثقة المجتمع في المنظومة القضائية.
منظور أوسع
نحو مستقبل يجسد سمو العدالة
في قضية محمد إينو، التي تحولت من فرضية انتحار إلى تحقيق في جناية قتل عمد، تثبت سرية التحقيق قيمتها كأداة للكشف عن “عين الحقيقة”، كما يعد بذلك دفاع عائلة الضحية. إنها ليست مجرد واجب قانوني، بل ضرورة أخلاقية تحمي الضعفاء وتضمن أن لا تكون العدالة ضحية للضجيج الإعلامي أو الضغوط الاجتماعية. بتعزيز هذه السرية بضمانات فعالة وشفافية مدروسة، يمكننا أن نبني نظامًا قضائيًا يجسد مبدأ “العدالة للجميع”، حيث تكون الحقيقة ليست سرًا مدفونًا، بل نورًا يضيء طريق الجميع نحو المساءلة والشفاء. هكذا، تصبح سرية التحقيق ليست نهاية، بل بداية لعدالة حقيقية.
Comments ( 0 )