ظواهر ناشئة “الاستقالة الانتقامية”: رعشة الجسم الصحفي

ظواهر ناشئة “الاستقالة الانتقامية”: رعشة الجسم الصحفي

 

 

 

في صيف 2025 الحار، يبدو أن بيئة العمل تشهد تحولات جذرية تعكس مزاجًا اجتماعيًا متأزمًا، حيث تتصاعد ظواهر جديدة تهدد ديناميات الإنتاجية والالتزام المهني و الجدية. بعد سنوات من الحديث عن “الاستقالة الصامتة” – تلك الظاهرة التي رصدناها منذ 2023، حيث يؤدي الموظف واجباته بأدنى مجهود ممكن، مكتفيًا بـ”قدر الراتب” – ها نحن اليوم أمام موجة جديدة أكثر حدة: “الاستقالة الانتقامية”. الظاهرة، التي بدأت تتبلور في قطاعات حيوية كالصحافة والإعلام، ليست مجرد رد فعل على بيئة عمل غير مرضية، بل تعبير عن تمرد صاخب ضد منظومات كرست الفساد، الريع، ومناطق الراحة الوهمية للكثير من الأقلام المأجورة.

 

الاستقالة الصامتة: البداية الهادئة

بدأت “الاستقالة الصامتة” كتعبير عن انسحاب الموظفين نفسيًا وعاطفيًا من بيئات عمل يرونها غير عادلة. موظفون يؤدون مهامهم بلا شغف، يلتزمون بالحد الأدنى، ويرفضون الانخراط في أي مبادرات مجتمعية تتجاوز واجباتهم الأساسية. في محيطنا، ارتبطت هذه الظاهرة بمناخ اقتصادي وسياسي معقد، حيث لا يزال الفساد والريع يشكلان محركات أساسية لديناميات المجتمع. أطباء يغيبون عن المستشفيات العمومية للعمل في القطاع الخاص، برلمانيون يتجاهلون مسؤولياتهم التشريعية، وصحفيون يستغلون انتماءاتهم النقابية لتجنب المساءلة، معلمون اشباح ، منتخبون فاسدون- كلها أمثلة على هذا الانسحاب الهادئ الذي يعكس منطق “منطقة الراحة” التي توفرها قبعات وهمية لكسب امتيازات شخصية تغلب على الصالح العام.

 

لكن مع اقتراب الانتخابات في 2026، وتزايد الضغوط السياسية والاجتماعية، بدأت هذه الاستقالات الصامتة تتحول إلى شكل جديد أكثر عدوانية: الاستقالة الانتقامية. هذه الظاهرة لا تقتصر على الانسحاب السلبي، بل تتجاوزه إلى فعل متعمد يهدف إلى تسوية الحسابات مع بيئة العمل، الزملاء، وحتى المجتمع بأسره.

 

الاستقالة الانتقامية: تمرد بطعم الانتقام ينشر في قطاع الصحافة، نعيش مغرب تحولات عميقة تعكس هذا الانتقال. بعد فشل المجلس الوطني للصحافة في تجديد هياكله التي حاولت تفكيك كعكة في الخفاء على مقاس بالوعاتهم، وتكليف لجنة مؤقتة لتسيير القطاع، بدأت الأخيرة في تفكيك شبكات الامتيازات التي كانت تتمتع بها نخب صحفية استفادت من “مناطق راحة” دون تقديم قيمة مضافة للمجتمع. هذه الإصلاحات، التي بدأت ترى النور، أثارت ردود فعل متباينة. من جهة، هناك قوى شابة صاعدة، مسلحة بقلم وورقة و كفاح تراكمي، تعمل على إعادة الصحافة إلى دورها الأصيل كجسر للوعي والثقافة، بعيدًا عن الاصطفافات الحزبية أو النقابية. ومن جهة أخرى، هناك من يقاوم هذه التغييرات، متشبثين بامتيازاتهم، محامين بقبعاتهم السياسية و النقابية، مستخدمين أساليب “الاستقالة الانتقامية” لعرقلة الإصلاحات.

 

الاستقالة الانتقامية تتجاوز مجرد الخروج من العمل. إنها فعل درامي يهدف إلى إلحاق الضرر بالمؤسسات و الزملاء. موظفون يغادرون بـدون”ضجة”، يسربون معلومات حساسة، يعرقلون المشاريع، أو حتى يتآمرون مع أطراف خارجية لتصفية حسابات شخصية. في قطاع الصحافة، رصدنا حالات لـ”صحفيين”، بعد إقصائهم من امتيازاتهم و طردهم من قبل اللجنة، لجأوا إلى تسليم أسماء زملائهم الشباب النشطين إلى جهات سياسية أو نقابية و وجوه خفية تحرك المشهد من خلف ستار، في محاولة لإجهاض أي محاولة للإصلاح. هذا الانتقام، الذي يتخذ طابعًا دراميًا، يعكس إحباطًا عميقًا من غياب التقدير، انعدام فرص التطور، قلة الإبداع والشعور بالتهميش و انعدام الإنسانية قبل الوطنية في بيئة عمل أصبحت لا تعترف الا بالجدارة.

 

لماذا الاستقالة الانتقامية؟
وفقًا لدراسات حديثة، يعاني 93% من الموظفين بدوام كامل من عدم الرضا الوظيفي، و28% منهم يخططون للانتقام من بيئات عملهم خلال 2025، خاصة في قطاعات مثل الإعلام، التسويق، وتكنولوجيا المعلومات (تسريبات).

 

الأسباب متعددة: غياب الحس الوطني، الجشع، نكران الجميل، وانعدام فرص النمو المهني. هذه العوامل، التي تُشبه “كومة قش” تتراكم حتى تصبح لا تُطاق، تدفع الموظف إلى اتخاذ موقف متطرف يتجاوز الاستقالة الصامتة إلى فعل انتقامي يهدف إلى “تصفية الحسابات”.

 

إشارات الإنذار واضحة:

انخفاض الشفافية حول فرص الترقية، فقدان الهدف المهني، تصاعد الصراعات بين الزملاء، وتراجع المشاركة في الأنشطة المهنية. هذه العلامات، إذا تُركت دون معالجة، تتحول إلى وقود للاستقالة الانتقامية.

 

للحد من هذه الظاهرة الناشئة السامة، يجب على المؤسسات والمنظومات المهنية تبني نهج استباقي:

1. رصد إشارات الإنذار مبكرًا: مراقبة انخفاض الحماس، التأخير المتكرر، أو تراجع الإنتاجية يمكن أن يكشف عن مشكلات قبل تفاقمها.

2. بناء الثقة: الوفاء بالوعود، حتى البسيطة منها، يعزز الشعور بالأمان الوظيفي.

3. مكافأة المجهود: التقدير الشخصي للعمل، مهما كان صغيرًا، يعزز الولاء ويقلل من الإحباط.

4. تخفيف الضغط النفسي: تشجيع التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، خاصة للجيل الجديد الذي يُقدّر المرونة أكثر من الألقاب.

 

منظور أوسع:

تذكرة ذهاب بلا عودة!

الاستقالة الانتقامية ليست مجرد رد فعل، بل نتيجة فوضى طويلة الأمد تتجاهل احتياجات الموظفين. إنها صرخة مدوية ضد بيئات عمل تُكرس الظلم وتُهمش المبدعين. الموظف الذي يغادر بهدوء قد يعود يومًا، لكن من يختار الانتقام يغلق الباب خلفه نهائيًا.

 

الصورة الأكبر:

في مغرب 2025، حيث تتصاعد التحديات السياسية والاجتماعية، يبقى السؤال: هل ستتمكن الإصلاحات الموعودة من احتواء هذه الظاهرة و اخواتها؟ أم أننا سنشهد موجة جديدة من الاستقالات الانتقامية تعيق عجلة التنمية؟ الحل بيد المؤسسات والأفراد على حد سواء: إصلاحات حقيقية، تقدير عادل، وبيئة عمل تحترم الجدارة. فكما يقول المثل: “إنما الأعمال بالخواتيم”.

 

إلى كل قارئ: إذا فكرت يومًا بالاستقالة الانتقامية، تذكر أن خير الكلام ما قل ودل، وأن الأثر الطيب هو ما يبقى.

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .