ظواهر ناشئة : “البراند” الجديد

ظواهر ناشئة : “البراند” الجديد

 

 

 

في ظاهرة تثير الدهشة والسخرية في آن واحد، بدأت حفلات الطلاق تغزو المشهد الاجتماعي، لتصبح مادة دسمة لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُنشر بكل فخر وكأنها إعلان عن إطلاق منتج جديد أو احتفال “سبوع” “زرورة” “خطوبة” ….

الخبر :

صانعة المحتوى المغربية “ديجي مها”، قررت أن تخلّد طلاقها الثاني بأسلوب لا يُنسى: يخت فاخر، أجواء مكتظة باللون الأسود الدراماتيكي، من الفساتين المحشوة بالاجساد إلى البالونات المنفوخة و الدجاج معمر، وحتى الحلوة اصبحت سوداء مزينة بعبارات مثل “طلاق وانطلاق” و”مع السلامة بي بي”. مشهد يبدو كأنه خليط بين عرض أزياء وفيلم درامي من إنتاج هوليوود، لكنه في الحقيقة مجرد احتفال بانتهاء زواج آخر.

 

لكن

دعونا نتوقف قليلاً ونتأمل: ما الذي يدفع إنسانة للاحتفال بـ”فشل” علاقة زوجية بمثل هذا التباهي؟ هل هو تحرر حقيقي، أم مجرد محاولة يائسة لتلميع صورة الطلاق في زمن بات فيه الزواج نفسه يشبه مغامرة محفوفة بالمخاطر؟ في القبائل الصحراوية، هناك تقليد قديم يحتفي بالمرأة المطلقة، معتبراً الطلاق فرصة لإعادة اندماجها في المجتمع، وليس وصمة عار. هذا التقليد، بروحه الإيجابية، يرفع مهر المرأة المطلقة على قريناتها يعكس نظرة متفائلة للحياة، حيث يُنظر إلى النهاية كبداية جديدة. لكن، عندما نرى هذه الحفلات المعاصرة، المغلفة بالترف والمبالغة، يتبادر إلى الذهن سؤال: هل هذا احتفال بالحرية، أم مجرد استعراض لتغطية الشعور بالفراغ؟

 

الظاهرة:

الطلاق كعلامة تجارية

في عالم يهيمن عليه الظهور الافتراضي، يبدو أن الطلاق قد تحول إلى “براند” جديد. لم يعد مجرد حدث شخصي، بل مناسبة لتصوير فيديوهات تتصدر “التريند”، مع هاشتاغات مثل #طلاق_سعيد أو #حياة_جديدة. هذا التحول يعكس تغيراً عميقاً في القيم الاجتماعية، حيث باتت الصورة العامة أهم من الجوهر. في الماضي، كان الطلاق يُنظر إليه كمأساة، أو على الأقل كحدث يُفضل التكتم عليه. اليوم، يبدو أن البعض يراه فرصة لإعادة تسويق الذات، كما لو كانوا يقولون للعالم: “انظروا، أنا قوي، أنا متحرر، وبالمناسبة، لدي يخت!”

 

لكن دعونا نكن صريحين: هذه الحفلات، بكل بريقها، قد تكون مجرد قناع لإخفاء التحديات النفسية والاجتماعية التي يتركها الطلاق. ففي الوقت الذي يرتفع فيه معدل العزوف عن الزواج وتتضخم أرقام العنوسة في المجتمعات العربية، يبدو أن مجتمعاتنا تعيش حالة من التفكك العاطفي. الناس يتزوجون أقل، يطلقون أكثر، وفي النهاية يحتفلون بالطلاق كأنه إنجاز يستحق صعود البوديوم و التتويج. فهل هذا فعلاً “انطلاق”، أم مجرد هروب من مواجهة الواقع؟

 

ظواهر ناشئة: زمن الزواج المؤقت

الزواج، الذي كان يُعتبر ركيزة أساسية لاستقرار المجتمع، بات اليوم يشبه عقد عمل مؤقت: إذا لم يعجبك، وقّع على إنهائه وامضِ قدماً. معدلات العنوسة ترتفع بشكل مخيف، والشباب يفضلون البقاء عازبين خوفاً من التزام ينتهي بحفلة طلاق على يخت. الدراسات تشير إلى أن نسب العنوسة حققت الرقم القياسي (3,6 مليون) بدون زواج، الزين في الثلاثين، يسجل ارتفاعات غير مسبوقة. في الوقت نفسه، الصحة النفسية للأفراد تتدهور، حيث تزداد حالات الاكتئاب والقلق، ليس فقط بسبب الطلاق، بل بسبب الضغوط الاجتماعية التي تجعل الزواج والطلاق على حد سواء عبئاً نفسياً.

 

فما هي المكتسبات إذن؟

هل اكتسبنا حرية حقيقية، أم مجرد وهم الحرية مغلف بحفلات فاخرة على الجمر؟ هل أصبح الطلاق وسيلة لإثبات الذات في مجتمع يقدس الصورة الخارجية؟ وإذا كان الزواج يفقد بريقه، والطلاق يتحول إلى مهرجان، فماذا عن المستقبل؟ هل سنرى قريباً حفلات للاحتفال بالعزوبية الدائمة، أو ربما “حفلات التفكير بالزواج” قبل أن يتراجع الطرفان؟

 

منظور أوسع : ماذا بعد؟

بينما نحن مشغولون بتصوير كعكة الطلاق السوداء، قد نكون نغفل عن السؤال الأهم: ماذا يحدث للمجتمع عندما يصبح الطلاق أكثر جاذبية من الزواج؟ ربما في المستقبل القريب، سنرى تطبيقات مخصصة لحفلات الطلاق، مع قوائم خدمات تشمل “دي جي” متخصص في أغاني الانفصال، ومصممي بالونات سوداء، وحتى مستشارين نفسيين يقدمون جلسات فورية على اليخت للتأكد من أنك “بخير” بعد توقيع الأوراق.

 

الصورة الأكبر :

ظاهرة حفلات الطلاق ليست مجرد موضة عابرة، بل انعكاس لتحولات اجتماعية عميقة. إنها تعبر عن رغبة في تحويل الألم إلى احتفال، والفشل إلى بداية جديدة، لكنها تثير تساؤلات حول ما إذا كنا نعالج الجرح أم نضع عليه ضمادة ملونة. ففي زمن التفكك الاجتماعي، حيث الزواج يتراجع والعنوسة تتفاقم، ربما يكون الاحتفال بالطلاق هو مجرد صرخة في وجه الفراغ، صرخة تقول: “أنا هنا، وما زلت أستطيع إقامة حفلة!”

 

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .