عُـد .. فأحـيـها !

أيقظني هدوء صاخب لم تعهده أذناي، من أحلام مبعثرة وناقصة، تشبه حالي تماما… نزلت من الحافلة واتجهت نحو المجهول، تبعد بلدتي عن محطة الحافلة ب30 كلم في جبال سوس، لا أعلم إن كانت تمر السيارات من هذه الطريق المهترئة، ولكني استمررت في المشي حاملا معي تلك الرسالة التي غيرت مصيري، كلما تسلل إلي الغضب أشد عليها بيدي حتى أكاد أمزقها، ثم أتذكر أن علي ترجمتها وفك شفراتها، فأرخي يدي وأطلق سراحها مجددا.

لا أتذكر متى كانت آخر زيارة لي لقريتي، ولا أعلم هل سيتذكرني أهل القرية، لم أخطط لشيء على غير عادتي، فلم أتوقع أن تكون وصية أبي رحمه الله، متعلقة بالعودة لهذا المكان مطلقا.. لا أظن أنه كان يفكر في حياته بالعودة، لأنه لم يذكر الأمر ولا مرة، أو ربما أخفى رغبته في ذلك، ولم يجد الوقت لتحقيقها…

لم أستوعب في البداية أن هتافات الأطفال الذين كانوا يجرون نحوي كانت من أجلي، وأنهم هنا لاستقبالي، حتى طمأنني كبيرهم ورحب بي وطلب إعانتي على حمل الحقيبة، أخبرني أن أرافقه لمنزله إلى حين أن تنتهي نساء البلدة من تنظيف منزلنا، وافقت بدون تردد فقد بلغ مني التعب مبلغه.

اكتشفت أن والدة الشاب، كانت جارتنا “رقية”، وأنها هي من أرسلته لاستضافتي في بيتها، حظيت في منزلها بأكبر غرفة وأعلاها، إذ كانت الأشياء تبدو ضئيلة في الخارج عبر شرفتها، غيرت ملابسي و وضعت حقائبي، ثم خرجت نحو منزلنا.. لم أتوقع أن أحظى بهذا الاستقبال الحار وبكل هذا الاهتمام، حتى أنني لوهلة نسيت غضبي، وسبب مجيئي..

كانت وراء منزلنا شجرة كبيرة، أتذكر أنها شجرة أركان، اتجهت نحوها مباشرة، والغريب أنها لم تتغير أبدا رغم مرور كل هذه السنوات، لازالت تلك الشجرة التي كنا نختبئ وراءها عند لعب الغميضة، و نجلس تحت ظلها بعد العصر، و نذبح أضحية العيد تحتها ونخيم طيلة أيام العيد بقربها، حتى أنني لطالما حاولت تسلقها في كل مرة يزورنا أبناء وبنات عمي، كانت تلك طريقتي الوحيدة للتفاخر أمامهم خاصة عندما كنت أسمعهم يتحدثون لغة غير مفهومة أمامي…

جلست تحت ظلها مجددا، وأخرجت من جيبي وصية أبي وأخذت أتأملها، ” عد يا بني إلى مسقط رأسك، إلى البلدة، و أحيها !”
أظن انه كان يقصد أن أحبها، فكيف لي أن أحيي البلدة، إنها حية أساسا…

قاطعتني سيدة وهي تناديني بلكنتها الأمازيغية، هممت نحوها فإذا بها تخرج من خرج بغلتها، بعض الخبز الطازج الساخن، ناولتني إياه مع قنينة صغيرة من الماء محاطة بثوب خشن، ابتسمت لي وعدلت قربات الماء على ظهر بغلتها، و لكزتها، قائلة : “مرحبا بك في تمازيرت….”.
وأنا أتناول الخبز، مرّت أمامي صور كثيرة، وتنامى بداخلي شعور غريب، إنه مذاق كرم أهل البادية!

هممت إلى السيدة وسألتها عن اسمها، فأجابت بلكنتها دائماً دون تردد؛ “أنا عمتك فاضنة ..”.

العمة “فاضنة” وهو الاسم الأمازيغي المشتق من اسم “فاطمة”، كانت تعابير وجهها تحكي كل شيء، تجاعيد قسوة الحياة، وجسم نحيل يرزح تحت وطأة حزمة من الغبن التاريخي والمجتمعي.
غير أن ابتسامتها الساحرة تحكي صمود الجبل للعمة “فاضنة” وللمرأة القروية عموما.

بادرت إلى سؤالها مرة أخرى؛ كيف يمر يومك يا عمتي؟
–  يبدأ يومي مع صياح الديك وآذان الفجر تجيب “فاضنة”، أستيقظ لبداية صباح جديد وبداية أجندة نهارية جديدة، أسابق الزمن لإيقاظ كل من محمد وخديجة (أبناؤها) ، وإعداد وجبة الفطور ، قبل توجههما للمدرسة التي تبعد عن المنزل مسافة طويلة، ثم أغادر المنزل لتبدأ رحلة البحث عن حطب التدفئة والماء إلى حين جمع ما يكفي لتحقيق اكتفاء ذاتي لأيام.

كانت العمة “فاضنة” دقيقة في سرد معاناتها اليومية مع تأمين أسباب العيش في ظل التضاريس القاسية والظلم المجالي، ما جعلني مهووسا لمعرفة المزيد.
سألتها مرة أخرى، هل لديك مدخول مالي؟ بعبارة أخرى، هل تمارسين أنشطة اقتصادية مدرة للدخل ؟
وكعادتها، تجيب العمة “فاضنة” ؛
– ليس لدي دخل مالي من أي جهة، شأني شأن باقي نساء البلدة، نعتمد على أنشطة فلاحية موسمية..
-تشير العمة “فاضنة” إلى الشجرة “الضخمة”-، تلك “المباركة” هي من تعيلنا في هذه البلدة.

فهمت الرسالة أخيرا..!

استمعت إلى سرد العمة “فاضنة” لتفاصيل يومياتها وأنشطتها الاقتصادية إلى أن أتممت كلامها، فقبَّلت رأسها كما هي عادة أهل البادية، وشكرتها على كرمها ووقتها الثمين.

بعد ذلك، توجهت صوب منزل جارتنا، فقد أبت إلا وأن أتناول الغذاء في ضيافتها، فما كان علي إلا وأن ألبي الدعوة.
ونحن نتناول وجبة الغذاء والتي كانت عبارة عن “طاجين” مطهو على طريقة أهل سوس، مع خبز “تفرنوت” الشهير في المنطقة، أخبرت جارتي “لالة” رقية عن الحوار الذي جمع بيني وبين العمة “فاضنة”، وزكّت كل ما جاء على لسان الأخيرة.
لقد اشتكت لالة رقية أيضا من قلة ذات اليد، عقب تدهور النشاط الاقتصادي لنساء البلدة، بفعل غياب المواكبة، وسيادة العشوائية، ثم التقلبات المناخية التي أثرت بشكل كبير على مصدر رزقهن الرئيسي ألا وهو ” شجر الأركان”.

لقد كان الحوار مع العمة “فاضنة” و “لالة رقية” حافزاً إضافيا لي، للتقرب أكثر من طبيعة حياة المرأة القروية، وتحديدا علاقتها مع شجرة الأركان، وقد كنت محظوظاً لأننا كنا في فصل الصيف، حيث موسم جني ثمار الأشجار.
أخبرت الجارة “لالة رقية” أنني سأرافقها مع نساء البلدة في رحلتهن لجني ثمار الأشجار، فرحبت بذلك، وحرصت على توصيتي بالاستيقاظ باكراً كي لا أتأخر عن المجموعة.

في الصباح الباكر من اليوم الموعود، كان المنظر مهيبا لنساء قدمن من كل حدب وصوب، يجمعهن نشاط موحد، هو جني ثمار شجر الأركان ، لقد تسابقت النساء مع إطلالة الصباح، فالكل يجمع الأكياس والسطول وقارورات الماء الملفوفة بالثياب ، تفوح منها رائحة القطران، ماؤها يظمأ الرياق في ظل ارتفاع درجة الحرارة، أما “لالة رقية” فقد استجمعت كل المستلزمات ووضعتها على الدابة، حمالة عود قصب طويل في يدها.

ترافق في طريقها مجموعة من النساء وأملهن، أن يعدن إلى منازلهن بثمار وفيرة، تصلن وسط الغابة وبين أشجار كثيفة ومتجعدة ، تنزل “لالة رقية” من على ظهر الدابة ، وتفرغ “الشواري” من المحتويات وأدوات العمل ، وتربط بإحكام الدابة مع جدع شجرة الأركان ، لتقوم بجولة خاطفة باحثة عن الأشجار ذات الحمولة الكبيرة للثمار وذات الجودة العالية، وكل النساء لها نفس المنوال والطريقة ، لجني وفير في مكان محدد دون اللجوء للشجيرات، طالما تجد أسفلها حبات معدودات لا تملأ السلة حتى تخيط الغابة عرضا وطولا.

يبدأ الجني في البداية بالثمار الجافة والتي تكون خفيفة الوزن، غير مكلفة للجهد والتعب، مقارنة مع الثمار غير الناضجة ، والتي يكون وزنها أثقل من الجافة، تلتقط المجدة بين الأحجار والحشائش حبات الأركان وأشعة الشمس الحارة تشعل المكان، وتنشط صراصير الغابة بأنينها وتزداد صوتا مع ارتفاع الحرارة ، ما إن تمتلئ السلة تفرغها في الكيس ، وتستمر العملية إلى أن تمتلئ الأكياس و”الشواري”، بعدها تروي العطش وتستريح قليلا، قبل حزم الأكياس بالحبال وبإحكام ، إيذانا بالعودة للديار.

تلك نبذة عن مرحلة صغيرة لجني ثمار الأركان ، حيث يستمر المسلسل ، بوضع المحصول بسطوح المنزل أو بفناء الحصاد، لأسابيع قصد التجفيف والتيبيس، وتقوم بقلب الثمار كي تجف من جهة أخرى.

لا راحة في “موسم الأركان”، فبعد فترة الغداء تقوم النساء بتقشير ثمار الأركان في مرحلتها الأولى ، يحتفظ فيه بالقشور للماشية قصد العلف ، فيما يتم تكسير الباقي من الحبات، حيث يظهر لب أبيض يميل للأصفر، بعد انتهاء مرحلة التكسير، تأتي مرحلة فرز البذور البيضاء من جهة ومخلفات الحبات جانبا لاستعمالها لطهي الخبز.

هذا العمل الشاق الذي ورثته العمة “فاضنة” و “لالة رقية” كما باقي نساء القرية من أمهاتهم وجداتهم يعد امتدادا من جيل إلى جيل، فهو مصدر عيشهن، كما أن تفرد منطقة “سوس” على غيرها من المناطق بربوع العالم بهاته الشجرة المباركة، يجعلها “مقدسة” لدى هؤلاء النسوة، ، فهي التدفئة وهي الطهي وهي الأكل وهي العلف ومصدر عيشهن.

تستمر “لالة رقية” في الكلام، وهي تحمص بذور الأركان فوق النار بعظم يابس مخصص لهذا الغرض، “نحن الأمازيغ نقدس شجرة الأركان” ونعتبرها “امتدادا للتواجد الأمازيغي في الأرض”، وتضيف “لنا روابط وتقاليد وعادات تؤكد أننا نحن السكان الأصليين “.

تبدأ المرحلة ما قبل الأخيرة وهي طحن البذور المحمصة مباشرة في طاحونة حجرية، يسيل منها خليط بني، قبل أن تأتي المرحلة الأخيرة، حيث يتم تفريغ الخليط في إناء كبير، يتم تحريكه مع إضافة بعضٍ من الماء الدافئ ، شيئا فشيئا ، حتى تبدأ العجينة بالتصلب، بعدها مع العمل المتواصل تظهر بوادر زيت الأركان تطفو بين قطع العجينة، وفي الأخير يتم تعصير العجائن بشكل دائري لاستخراج مزيد من الأركان، وأخيراً يجمع في القنينة.

كيف كانت الغلة اليوم ؟

  • “ممتازة ، لقد استطعت استخراج لتر واحد من زيت الأركان.. سأبيعه في السوق، لأشتري بعض الأغراض التي تنقصني في المنزل”.

السوق؟ كيف ستبيعينه في السوق ؟

  • “هناك مشترين معروفين للمنتج ، بمجرد أن يصبح جاهزا يتم بيعه، بثمن معروف سلفاً”.

لقد فكرت في الأمر منذ ليلة الأمس، بين ما رأيته من نساء القرية وما عشته في هذه الأيام المعدودة، لم أنس قط وصية أبي، رددت العبارة مرارا وتكرارا، و أظنني فهمت المغزى، و وُفقت لفك غموض الوصية، لم يكن أبي يطلب مني أن أحب البلدة، بل إنه طلب إحياءها فعلا ! نعم هي حية وأهلها يعيشون حياة أسعد من أهل المدينة، لكن قلة الحيلة وانعدام شروط العيش يمكن أن تسلب لهذا المكان الجميل وهذه الطبيعة الخلابة أنفاسها الأخيرة، وقد حان وقت الحسم في اتخاذ القرار.

نعم، تستحق هؤلاء النسوة مناخاً أفضل للعمل، وظروفا أكثر إنسانية، ودخلا ماديا محترما نظير خدماتهن الكبيرة.

لذلك اتخذت القرار بتأسيس تعاونية فلاحية تعنى بشجرة الأركان في البلدة، وهي الأولى من نوعها في المنطقة، تشجيعا لهذه الطاقات البشرية المنتجة، وتكريما للمرأة القروية المكافحة.

و قد اخترت للتعاونية اسماً دلاليا على من كان يرجع له الفضل في كل هذا، ولم أجد أحسن من كلمة “فأحيها” التي كانت رسالة الوالد رحمه الله.

لقد غيرت هذه التعاونية حياة “لالة رقية” والعمة “فاضنة” وبقية نساء القرية عامة إلى الأفضل، فقد ضمنت لهن مقراً يشجع على العمل، ودخلا شهريا يحفظ كرامتهن، إضافة إلى تسويق أفضل لمنتجاتهن.

لم تكتفي تعاونية “فأحيها” بهذا القدر، بل سارعت إلى تقديم تكوينات ودورات للنساء حول استعمالات الأركان وفوائده، إضافة إلى طرق الجني والإنتاج.

اليوم “لالة رقية” و العمة “فاضنة” وكل نساء البلدة، يناشدن المسؤولين للتدخل من أجل الحفاظ على هذه الشجرة المباركة، والتي تصنف كتراث ثقافي لامادي مغربي عالمي، اختارت لها الأمم المتحدة مؤخرا يوم العاشر من مايو في كل سنة يوما عالميا لها، في ظل تخوفات من كابوس الاندثار ، خصوصا وأن مساحات واسعة سلبت أو زحف عليها الشكل العمراني للإسمنت ، ولا ننسى خطر الرعي الجائر للإبل والرحل، وكذا تنامي مخاطر التغير المناخي.

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .