قصة اْستاذة مُغامرة .. نصف عام من الإصرار بين قِمم الأطلس و المحيط الأطلسي
في أول يوم على تعيينها بالمدرسة الابتدائية في القرية النائية التي لم تسمع بها يوماً.. إلا بعد شدِّ الرِّحال لها عبر كل السُبل المتاحة، وسط تضاريس وعرة و أجواء باردة تُدفئها التقاليد المحافظة و إيماءات النِسوة الأمازيغية، تمُر أمام الانظار الفضولية التي تنتظر وصول أستاذة القرية. حُطّت (مِ مِ) اخيرا، لتضع حقائبها التي أرهقت جسدها النحيل داخل مقرها الجديد على إرتفاع يفوق 3 آلاف متر عن سطح البحر، لم يُسعفها الوقت للتعرف على دروب القرية و المرافق إن ُوُجدت، كان ذاك المساء يوم 08 سبتمبر يخيم على جبال الأطلس حيث آثار الحاجة بوجوه الأطفال اللذين كانوا باستقبالها، باديـة، عُيونٌ تبعث على الأمل بجمالها الطبيعي، سأصبح مُتيَّمة بقِمم الجبال هذه. لم تكن تدرك الشابة بعد أنها أمام مواجهة مأساوية عندما سيضرب زلزال عاتٍ المنطقة.
غروب شمس 08 سبتمبر
وسط جدران لم تلقى عِناية الوزارة عكس ما يُروِّج له الوزير من إمكانيات على قناة شوفوني، كانت (مِ مِ) حينها تحاول رسم ملامح مستقبل قادها القدر إليه، تحاول أن تكون صَبورة و تُطمئن أهلها عبر إتصال هاتفي رديء بسبب سوء تغطية الشبكة، وصوت غليان ابريق الماء ينفثُ بعض الدفء الذي هجرته لأجل مستقبلها و الرسالة النبيلة التي تنتظرها بالغد : لا تَـعب..، لا تقلقوا ..تُصبحون على خير، الأمور كلها على خير.
هدوء..سكينة..، الساعة الان 11 بعد 11 ليلاً ،انتهى موجز الاخبار و انقطع البث. اهتزت الأرض من حولها و صوت الصُراخ القادم من الفِجاج العميقة يتبعه صدى نُواح النِسوة و استغاثة الرجال، لم يكن بالحدث المُستساغ على الفهم مع صعوبة محاولة فتح الباب الحديدي الصدِء الذي استعصى فتحه بعد ارتداد الجدران المُنشقّة، هي ساعات من الرعب في محاولة لفهم ما يقع بالخارج، تدخّل بعض المارة بعد منتصف الليل لفكِ براغي هذا الصرح الحديدي الجاثم على قلب الشابة؛ فُتح أخيرا على دمار المدرسة و ما يبدوا أنه تبقى من القرية الصغيرة المظلمة، هو الرُعب، طوال الليل بإنتظار الصباح الذي كان يومه يحصي عدد جثثِ الأطفال و دويهم تحت المِروحيات العسكرية التي تتفقد المنطقة. زلزال كبير لم يشهده المغرب من قبل، و زلزال أكبر هز معنويات الشابة بعد إنقطاع الإتصالات للإطمئنان على ذويها.
صباح بكل المعاني إلا السعادة..
بعد أن إستقرت الأمور قليلاً، ذلك الصباح، و إدراك أن هذا الدمار بقُدرة قادر، بدأت بطلتنا بلمْلمة ما تبقى من عزيمتها لرسم خطة و مساعدة السكان المتضررين. وأمام محاولات فاشلة لربط الإتصال بأهلها طيلة أسبوع، كانت فيه كل المسالك مغلقة؛ إنهيارات و حجارة متراكمة، اسبوع بأكمله تفترش الأرض و تلتحف السماء حيث اجتمعت النِسوة ليَصوموا النُطق، عن الإيماءة، عن أبسط إشارة ،شعائرهم في الإصغاء السكون من العبادات التي تفوق حتى الصلاة التي تبعث لها ببعض الأمل، أمام حيرة عينيها في السماء التي بدت أكبر وهي تُغالب الدموع :
ما هذا القدر؟
الحمد للّٰه على كل حال، هل إختارتني الأقدار لأواسي هذا الكمْ من الحزن؟
هل أستطيع أن أتحمل أكثر؟ ساعدني يا اللّٰه.
قامت لإقامة خيمة مؤقتة مع أهلها الجُدد، قبل أن تُقرِّر نزول المرتفعات الجبلية للوصول لأقرب الطرق التي توفر المواصلات، على مسافة 30 كلمتر من من المنحدرات و المنعرجات الخطرة و إرتدادات الزلزال التي تُذكر بيوم الفاجعة، وصلت قبل الموعد للطريق المُتبقية يحدوها أمل لقاء الأهل..لتحكي لهم..، أخيراً تحقق اللقاء و العِناق على طول الطريق نحو المدينة الأطلسية، مسقط رأسها.
ماذا بعد..؟!
الكل يتحدث عن الزلزال، العائلة..؛الأصدقاء يسألون عن سلامتها، و صُور التّضامن على الشاشات و ضِل اللّه الوافر على الأرض يُواسي جراح المكلومين، حديث العالم كله يبعثُ على التضامن، تُراقب (مِ مِ) في حيرة من أمرها ما ستؤول إليه الأمور و الرَّعشة اللّا إرادية تتسلل لأعصابها المُنهارة و هي تحاول تبسيط الأمور لتُغالب لحظة الفزع التي عاشتها ،صوت الأب من زاوية مُختلفة يقول : “ما عندنا ما نديروا بهاد الخدمة..ٰجلسي فداركم” و الأم المفزوعة تُراقب بنتها ،ماذا ستفعل بعدْ هذه الجريئة؟ و هي من منحتها الحب دون كبرياء، تعرف أن شجاعتها و تربيتها على قِيم الإستمرار و المثابرة على المحك، لكنها خائفة، ماذا ستفعل بعدْ. تتساءل الأم.
لم يَمضي أسبوع ليصل استدعاء مواصلة الدراسة -تحت الخيام هذه المرة- بإنتظار إعادة إعمار المناطق المنكوبة؛ يقول الناطق الحكومي.
الأب : هذا جنون..تحت الخيام!؟
الأم : لا حديث بعدْ تُراقب فقط ردة فعل ابنتها و تتساءل: هل تستطيع هذه الجريئة؟
تواصل (مِ مِ) التفكير بهذا المستجد و لسان حالها يقول: ما هذا.. ؟ لم أُوقع عقود لأعمل بهذه الظروف، كادت أن تنسحب لولا اعتبارها لمراسلة الوزارة تحدي لكَيانها، صراع داخلي يُرافقها بالجولة التي تصطحبها فيها الأم لتفريغ كثرة التفكير و التساؤل.. بدأت الأستاذة أخيرا تستعيد بعض لِياقتها التي تحاول بها طمأنت كِبريائها، لتلتقط الأم أخيرا الإشارة: سأرافقك، سأحاول أنا أيضاً أن أُقدم ما أستطيع.
عودة تحت الصفر
لم تكن العودة كما كان مُخططا لها مع تناسل الأخبار عن تحديث النِظام الأساسي للتعليم وما تبعه من احتجاجات و ووقفات و إنزالات بالٓالاف لأُطر التّعليم بالمدن الكبرى، كانت الأخبار التي تصل القرية عن المعركة النِضالية التي يخوضها الأساتذة ضد قرارات الحكومة تصطدم بمُثابرة (مِ مِ) التي كانت تخوض نِضال من نوع آخر مع هشاشة الوضع القائم على أعمدة الخِيام التي تتنقل بينها تارة لإعادة بناء الإنسان و رفع معنويات الأطفال و تارة بالخَيمة التي أصبحت مقر سُكناها الجديد -المهدد بالإنهيار من شدة رياح الشتاء- بالمنطقة. معاناة..،سنحجب معها هذه الفقرة لأن الوضع يتعلق بالخصوصية في هذه المرحلة.ستستمر هذه المعاناة إلى حدود العطلة التي أطلت بإخبار الاقتطاعات من الأُجور…لا تعويضات !.
الصورة الأكبر
بعد عودتها من العطلة التي صادفت شهر رمضان الكريم، باتت بطلتنا لا تُعرف فقط كمُدرسة في القرية، بل كقائدة تربوية وروح ملهمة. تقود جهود إعادة البناء بإصرارها وثباتها، وشكلت فريق عمل متحابٍ وملتزم مع النِسوة اللذين جعلوا منها مزاراً لهم ؛ يعملون جنبًا إلى جنب من أجل تحقيق رؤيتهم لتحسين التعليم وتقديم الفرص لليتامى.
تمكّنت من تأسيس برامج تعليمية تطوعية مبتكرة ومشاريع اجتماعية تعزز من أثر التعليم أمام القمم الجبلية التي كساها البياض، حيث انتشر صيتها كقائدة تربوية مبدعة.اصبحت قصتها مثالًا حيًّا على قوة الإرادة والعمل الجماعي في تحقيق الأهداف الصعبة. وبفضل إصرارها وإيمانها بأهمية التعليم، استطاعت تحقيق نجاحات شخصية ستترك بصمتها الإيجابية في حياة السكان المحليين. وبهذه الروح القوية والإنسانية، تستمر أستاذتنا خلال هذا الشهر المبارك في بث الأمل والتغيير في حياة الجميع من حولها.
Comments ( 0 )