مشروع القانون الجديد… هل يدفن الصحافة المهنية لصالح المال والسلطة؟

مشروع القانون الجديد… هل يدفن الصحافة المهنية لصالح المال والسلطة؟

 

 

 

تعتبر هذه الفترة مفصلية، تتأكد فيها أسوأ مخاوف الصحافة المغربية، التي ناضلنا من أجل استقلاليتها، تُدفع اليوم دفعًا نحو الارتهان لرأس المال، وتُحاصر بمنطق الزجر والتعيين والتطويع. حيث أصبح واضحًا أن هناك إرادة سياسية تُهيمن، لا تنظم أو تُوجه، لا تحمي بل تُقصي ولا تُنصف.

 

لا يأتي هذا المشروع من فراغ، بل يُقدَّم في نهاية الولاية الحكومية، وكأن هناك سباقًا مع الزمن لفرض رؤى معينة قبل مغادرة الكراسي. إنها محاولة مكشوفة لضبط موازين القوى في المشهد الإعلامي، تحسبًا لأي تغيير سياسي قد يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي.

 

إن مشروع القانون رقم 26.25 المتعلق بإعادة هيكلة المجلس الوطني للصحافة، الذي صادقت عليه الحكومة، لا يهدف للإصلاح أو التطوير كما يُروَّج له. بل جاء ليعيد ترتيب المشهد الصحفي على مقاس جهة واحدة: المال والسلطة، لا المهنية والاستقلال.

 

التفكيك الدستوري والتنظيمي

تم تفكيك مبدأ التنظيم الذاتي الذي نص عليه الفصل 28 من الدستور. فبدل أن يُنتخب جميع الأعضاء، تم اختراق الفكرة من الداخل عبر التمييز الفج بين “منتخب” و”مُعيّن”، بين من يمثّل الصحفيين حقًا، ومن يُمنح التمثيلية بحكم الانتماء أو الولاء. وهنا يطرح تساؤل جوهري: هل هذا هو التمثيل الديمقراطي الذي وعد به دستور 2011؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مسرحية قانونية لإعطاء غطاء شرعي لقرارات مصيرية تُتخذ خارج أسوار المهنة؟

 

والأخطر من ذلك، أن تمثيلية الناشرين باتت رهينة رقم المعاملات، لا الأداء المهني. فكلما كانت المؤسسة أكبر وأقرب من شركات الإشهار والسلطة، ازدادت حظوظها في النفوذ داخل المجلس. و هذا منطق خطير يجعل من الصحافة سوقًا، لا سلطة رابعة، ويمنح الأفضلية لمن يُطوّع لا من يراقب.

 

من قانون إلى أداة تطويع… الصحافة بين المطرقة والسندان

لقد أصبح واضحًا أن الصحافة تتحول تدريجيًا إلى ذراع ناعم للسلطة، تُعاد هيكلتها بدلًا من تنظيمها، لإفراغها من دورها النقدي.

 

بالإضافة إلى مشروع القانون رقم 27.25 المتعلق بتغيير وتتميم القانون رقم 89.13 المنظم للمجلس الوطني للصحافة، الذي يفتح الباب أمام توقيف الصحف بقرارات إدارية، وهو اختصاص قضائي حصري في الدول التي تحترم مبدأ فصل السلط. وهنا يطرح تساؤل آخر: هل نحن بصدد ولوج مرحلة جديدة من الرقابة غير المباشرة بأدوات قانونية مموهة؟ أم هناك أهداف أخرى لا نعلمها؟

 

إن هذه الصلاحية تمنح المجلس سلطة قضائية غير موجودة حتى لدى الدولة نفسها، ما يعرض حرية التعبير إلى تهديد مباشر.ولعل أخطر ما في الأمر ليس مجرد النصوص القانونية، إنما في طريقة استخدام هذه الصلاحيات لتعزيز الإقصاء والترهيب وبالتالي الضرب في جوهر الرسالة الصحفية الجليلة.

 

لمن يُكتب هذا القانون؟

من هنا، أجد نفسي ملزمة بطرح السؤال التالي:

لمن يُكتب هذا القانون؟ للصحفي المهني الحقيقي؟ أم لدوائر النفوذ المالي والسياسي؟

فالصحفي المهني الحقيقي: هو صوت الوطن وضمير الشعب

 

يعتبر هذا القانون المنظم لمهنة الصحافة المعروفة بصاحبة الجلالة، التي كانت دائمًا صوت الوطن والشعب، ضمير المواطن الحر الغيور على بلده، والجندي المدافع على أرضه، والدبلوماسي العميق المتفاوض على القضايا الكبرى لدولته، والسياسي المحلل للملفات المعقدة خدمة للصالح العام، ورجل الاقتصاد الهادف للتنمية الاقتصادية، وكل شخص ينتمي لهذه الأرض ويعشقها ويركب على قاطرة التنمية الشاملة لبناء مغرب جديد مشرق وقوي ومتقدم يجسد الرؤية الملكية السامية.

 

هذا هو الصحفي المهني الذي يمثل كل هؤلاء الأشخاص، ويهدف للمصلحة العامة دون أي انحياز أو تواطؤ. هو الحر النزيه الذي يدافع على القضايا الوطنية الكبرى وتنوير الرأي العام، لا يستحق كل هذا الاستهداف المباشر لشل أجنحته البيضاء التي لا يلوثها الفساد والانبطاح.كما لا تستحق مهنته موالاة أو انحيازا لأي جهة كانت.

 

فالصحافة كانت ولازالت وستبقى مهنة حرة للشرفاء، حتى وإن قيدها الفاسدون. نأمل أن تظل الصحافة مهنة حرة مستقلة تمارس مهامها بمسؤولية ونزاهة دون الانضواء تحت أي لواء أو جهة.

 

الصحافة الجهوية والبديلة… صوت الهامش المغيّب

كما أن مشروع القانون تجاهل تمامًا أهمية دعم الصحافة الجهوية والمحلية، التي تعتبر المتنفس الحقيقي للمواطن في الجهات، وصوت الفئات المهمشة.

 

إنها الصحافة التي تُعبّر عن نبض الناس، والتي تحتاج إلى التحفيز لا التهميش، حتى لا نترك الساحة خالية للإعلام الموجه والمركزي فقط.

 

ما الذي نطالب به؟

_ إعادة تشكيل المجلس الوطني للصحافة بمبدأ “كل الصحفيين صوت واحد” دون تمييز على أساس المال أو النفوذ.

_ ضمان تمثيلية حقيقية ومستقلة للصحفيين عبر انتخابات ديمقراطية شفافة.

_ إلغاء أي صلاحيات زجرية قضائية عن المجلس، وإحالتها حصريًا للقضاء المستقل.

_ فتح حوار وطني موسع مع كل الأطراف المعنية (نقابات، هيئات مهنية، نقاد، حقوقيون).

_ تعزيز استقلالية الصحافة ودعم الإعلام الجهوي والبديل لضمان تعددية حقيقية.

 

لحظة الحقيقة والحسم

 

اليوم، لا يمكن الحديث عن حرية صحافة حقيقية، في ظل قانون يمنح الأفضلية لمن يُجيد الحسابات البنكية، ويهمش من يُجيد الاشتغال على قضايا الناس من الهامش، من الميدان، من حيث تنبض الحقيقة بلا مكياج.

 

لهذا أقولها بوضوح:

مشروعا القانونين 26.25 و27.25 لا يخدمان الصحفي المهني الحر، بل يُجهزان عليه. ولا يمكننا أن نقبل بأن تُصاغ القوانين خلف الأبواب المغلقة، دون استشارة النقابات، أو فتح نقاش وطني جاد. فالصحافة ليست قطاعًا إداريًا تُعاد هيكلته بمنطق بيروقراطي، بل ركيزة ديمقراطية يُفترض أن تُحمى لا أن تُختطف.

 

ابتدأ العد العكسي…

فعلا، إما أن نعيد التوازن للمشهد الصحفي، ونتمسك بتنظيم ذاتي مستقل، نزيه، ديمقراطي.. أو نُسلم المهنة لمن يرى فيها غنيمة سياسية أو تجارية، لا رسالة ومسؤولية.

 

أسئلة جوهرية لا يمكن تجاهلها

 

في خضم هذا التلاعب بمبادئ الصحافة وتفصيل القوانين على مقاس الهيمنة، تبرز أمامنا أسئلة جوهرية تفرض نفسها بقوة، ولا يمكن لأي مسؤول أو مشرّع أو طرف حكومي أن يتهرب منها:

 

_ لماذا كل هذه القيود المفاجئة على مهنة الصحافة؟

_ ما الهدف الحقيقي من تحويل المجلس الوطني من هيئة مستقلة إلى أداة توجيه وتحكّم؟

_ هل نحن أمام تمهيد مكشوف لتهيئة الأرضية أمام أصحاب المال والنفوذ لتدجين الإعلام وجعله تابعًا؟  أم أن الغاية هي ضرب استقلالية الصحافة من الجذور لإقصاء الأصوات الحرة، وخنق الصحفيين المهنيين الذين لا يركعون ولا يُشترون؟

_ هل هذا القانون سيُعيد الاعتبار لـ “صاحبة الجلالة”، أم أنه النسخة القانونية الأخيرة لدفنها؟

_ أليس ما يجري هو إعلان موت بطيء لما تبقى من الصحافة المستقلة وللقوى الحية التي مازالت تُقاوم؟

 

كلها أسئلة لا تحتمل المجاملة، ولا التسييس، ولا الخطاب الخشبي. بل تتطلب جرأة سياسية، وضميرًا وطنيًا حيًا، وكشفًا واضحًا للأوراق الرابحة والخاسرة. لقد ولى زمن التبرير والتهرب، وحان وقت المكاشفة.

 

إن التاريخ يسجل اليوم من يتواطأ بالصمت، ومن يكتب الحقيقة بقلبه وقلمه وكرامته. وإذا خذل السياسيون مهنة الصحافة، فعلى الصحفيين ألا يخذلوا أنفسهم، ولا زملاءهم، ولا جمهورهم الذي لا زال يؤمن أن هناك من يكتب لا ليُرضي، بل ليُنير.

Share
  • Link copied
Comments ( 1 )
  1. M.Idel :

    رغم أن مشروعي القانونين 26.25 و27.25 لم يُناقشا بعد في البرلمان، فإن المقال يطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل حرية الصحافة واستقلاليتها بالمغرب. يُعبّر عن قلق مهني مشروع تجاه ما يسمى perceived كمسار يُعزز منطق التعيين والتطويع على حساب التنظيم الذاتي والديمقراطية الداخلية. لكن يبقى من الضروري انتظار النقاش البرلماني، مع الدعوة لحوار وطني شفاف يُشرك الجسم الصحفي في صياغة قوانين تضمن استقلالية المهنة وتحمي دورها الحيوي في الديمقراطية.
    M. Idel

    1

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .