مونديال 2030.. رسالة من المغرب وجيرانه إلى العالم بعنوان ” كرة القدم خيار للسلام في زمن التوترات “
ودارت الأيام كما أحببناها أن تدور، ولم تكن لتفعل ذلك لولا أنها وجدت شعباً بأمته وقيادته لا يعرف معنى لليأس في قاموسه الحافل بالتحديات على مر تاريخه العريق.
إن الناظر في تاريخ ومسار تطور الحلم المغربي لاحتضان كأس العالم لكرة القدم، سيقف مذهولاً لا محالة من قدرة هذا البلد على الصمود أمام كل تلك الخيبات التي اصطدم بها خلال خمس مرات سابقة حاول فيها استضافة هذا الحدث الكوني الرياضي (1994ـ1998ـ2006ـ2010ـ2026)، وهي محطات تظافرت خلالها عوامل قلة الخبرة بمؤامرات وكواليس أخرى كُشفت خيوطها في ما بعد على إجهاض الحُلم المغربي وما كان ذلك. إذ لم تكن تلك العثرات سوى حافزاً وراء حافز لتجسيد ملف لا يقهر أسقط أسطورة “الملف المئوي” وجعل ملفات أخرى لبلدان كبيرة الوزن دولياً تعود للخلف وتؤجل خططها للإستضافة.
▪︎ البداية من حيث نقطة النهاية
فور إعلان فوز الملف الثلاثي الأمريكي-المكسيكي-الكندي باستضافة نهائيات كأس العالم 2026 في اجتماع كونغرس الفيفا في يونيو 2018 بالعاصمة الروسية موسكو، أعلن المغرب بتعليمات سامية من جلالة الملك محمد السادس، نيته الترشح من جديد لتنظيم مونديال 2030، في إشارة واضحة حينها أن المغرب سيتحدى كل الصعاب والعقبات وضحى وسيضحي من أجل حلمه المشروع قياساً بتاريخ حضارته وأمته.
خسِرَ المغرب حينها الترشيح ب134 صوتا للملف الثلاثي المنافس مقابل 65 له من أصل 203 أعضاء أدلوا بأصواتهم في مجلس الفيفا. وبقدر ما كانت الأرقام في صالح المنافس، بقدر ما بعثت إشارات إيجابية خاصة أن المغرب ترشح لوحده في مواجهة ثلاثة بلدان تتصدرها الولايات المتحدة التي رمت بكل ثقلها الدبلوماسي والسياسي لحسم المنافسة لصالحها، فكانت موازين القوى غير متكافئة.
▪︎ إعداد خطة النصر
تيقّنت المملكة المغربية بعد خسارتها فرصة استضافة كأس العالم 2026، أن إعادة إحياء الحلم المونديالي يحتاج مراجعة الأوراق خاصة أن المعايير تغيّرت وشكل المونديال لم يعد كما كان خاصة بعد رفع عدد المنتخبات المشاركة إلى 48 منتخباً عِوض 32 كما كان في السابق، وهي أحد أهم النقط التي رجحت كفة الملف الأمريكي المشترك الفائز باستضافة نسخة 2026. فما كان على صنّاع القرار في الرباط إلا الإلتفات للجوار الإقليمي. هذا الأخير يعرف الجميع أوضاعه المعقدة، حيث تنتشر الجماعات الإرهابية المسلحة ومشاكل الحدود الموروثة عن الإستعمار، إضافة إلى صراعات وحساسيات أخرى سياسية وتاريخية خاصة.
كلها أوضاع وعراقيل لم تمنع النخبة المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس إلى زحزحة المياه الراكدة في المنطقة وترك الخلافات جانباً، وعوضاً عن ذلك ركزت المملكة المغربية على القيم، التاريخ والمصير المشترك مع دول الجوار الشمالي في حوض البحر الأبيض المتوسط، والحديث عن المملكة الإسبانية وجمهورية البرتغال، فكان شعار المحادثات : “دعونا نتعاون على ما نتّفق فيه ويعذر بعضنا البعض على ما نختلف فيه”.
لم يكن مجرد شعار لبدء مفاوضات الترشح لتنظيم مسابقة رياضية، بل كان لحظة عودة الأمل لمنطقة عانت شعوبها من ويلات إرث ماضٍ ليست مسؤولة عليه بأي شكل من الأشكال، وهو ما استوعبته قيادات البلدان الثلاثة عندما أعلنت الإنخراط بشكل جدّي في إعداد ملف تاريخي لمونديال تاريخي.
▪︎ الإعلان عن الترشح وبداية التحدي
الثلاثاء 14 مارس 2023 في العاصمة الرواندية كيغالي وأمام أعضاء اللجنة التنفيذية للإتحاد الأفريقي لكرة القدم وبحضور لعدة شخصيات سياسية ورياضية، أعلن المغرب رسميا ترشحه لاستضافة كأس العالم لسنة 2030، في ملف مشترك رفقة إسبانيا والبرتغال.
هذا القرار الذي جاء في رسالة ملكية على لسان وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شكيب بنموسى، خلال تسلم جائزة التميز الممنوحة للملك محمد السادس نصره الله من طرف الإتحاد الإفريقي لكرة القدم. أتى ليؤكد أن المملكة تقدمت بملف يمثل القارة الإفريقية التي لم تنظم المونديال سوى لمرة واحدة على مر التاريخ وكانت نسخة 2010 بجنوب افريقيا آنذاك.
القرار الذي فور إعلانه انهالت عليه تصفيقات أعضاء “كاف” وباقي المسؤولين الحاضرين في الجمعية العامة للجهاز الكروي الأفريقي، وتلته بلاغات من القيادتين في كل من إسبانيا والبرتغال، معلنين عن ميلاد ملف تاريخي لم يسبق له مثيل.
▪︎ إسقاط ملف “المئوية” وحسم المنافسة قبل مرحلة التصويت
لقد أَعلن الملف المغربي-الإيبيري عن نفسه منذ البداية ملفاً لا يُقهَر، فإلى جانب كونه يجمع بين قارتين كاملتين، حضارات مختلفة، ديانات وثقافات مختلفة، لغات مختلفة وبلدان برصيد رياضي تاريخي عريق خاصة في كرة القدم.. فهو يربط بين طموحات شباب المنطقة. وهو ما ذهب إليه جلالة الملك محمد السادس في رسالته إلى الجمعية العامة للإتحاد الأفريقي لكرة القدم في كيغالي، حين أعلن عن تقديم ملف مشترك بين المغرب وإسبانيا والبرتغال لاستظافة كأس العالم 2030.
ومن أبرز ما جاء في الرسالة “أعلن أمام جمعكم هذا، أن المملكة المغربية قد قررت، بمعية إسبانيا والبرتغال، تقديم ترشيح مشترك لتنظيم كأس العالم لسنة 2030”.
وأوضح جلالة الملك، في هذه الرسالة، التي تلاها وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شكيب بنموسى، أن “هذا الترشيح المشترك، الذي يعد سابقة في تاريخ كرة القدم، سيحمل عنوان الربط بين إفريقيا وأوروبا، وبين شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، وبين القارة الإفريقية والعالم العربي والفضاء الأورومتوسطي”.
وأضاف جلالته أن “هذا الترشيح سيجسد أيضا أسمى معاني الالتئام حول أفضل ما لدى هذا الجانب أو ذاك، وينتصب شاهدا على تضافر جهود العبقرية والإبداع وتكامل الخبرات والإمكانات”.
لقد كان إعلاناً عبقرياً عن ميلاد ملف الترشيح المشترك، أسر به قلوب الأفارقة وبعث في نفس الوقت الأمل للجيران الأوروبيين في بداية عهد جديد بين افريقيا وأوروبا.
منذ البداية، كان واضحاً أن هذا الترشيح قَسَم ظهر الملف “المئوي” لدول أمريكا اللاتينية، والذي ضمّ كل من الأرجنتين، أوروغواي وباراغواي. هذا الملف الذي تسلّح أصحابه بالذكرى المئوية لانطلاق كأس العالم بالأوروغواي سنة 1930، ووصفه الجميع بأنه من دون منافس سيفوز بالتنظيم. كان ذلك قبل أن تجتمع إرادة المطلّين على واجهة البحر الأبيض المتوسط لتغيير بوصلة العالم نحو منطقتهم.
فكان لكلمات جلالة الملك محمد السادس وأصدقائه في مملكة إسبانيا والبرتغال، وقع السحر على الرأي العام الكروي العالمي، فتسلّح الملف بالصورة المميزة التي تركها “أسود الأطلس” في مونديال قطر 2022 وهم يصلون للمربع الذهبي للمرة الأولى في تاريخ القارة الأفريقية، وكذا الرغبة الجامحة للأفارقة في إعادة تنظيم المونديال مرة أخرى كحق مشروع على غرار باقي القارات، كما تسلّح الملف بإرادة قوية من الأطراف الثلاثة من أجل جعل المونديال فرصة لتوحيد الرؤى وتقريب المسافات وتحويل الاختلافات والأزمات إلى فرص تقوي الروابط بين شعوب المنطقة.
▪︎ إعلان النصر على الطريقة المغربية
في صبيحة الرابع من أكتوبر من السنة الجارية، زفّ الديوان الملكي المغربي البشرى السّارة للمغاربة خاصة ومعهم الاسبانيين والبرتغاليين كذلك، عندما أعلن منفرداً بالخبر، أن الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا، قرّر بالإجماع إقامة كأس العالم 2030 في المغرب وإسبانيا والبرتغال، بينما ستقام أول مباراة لكل من أوروغواي والأرجنتين وباراغواي على أراضيها، للاحتفال بمئوية المسابقة.
لقد كان إعلاناً على الطريقة المغربية، فقد اعتاد جلالة الملك محمد السادس أن يكون أول من يزفّ الأخبار السارة لرعاياه، ولم يخرج هذا الإعلان عن القاعدة. ومباشرة بعد ذلك عمّت الفرحة بين المغاربة وأصدقائهم في إسبانيا والبرتغال في أعمق معاني نشر قيم السلام والتسامح والترابط بين الشعوب والمصالحة مع الذكريات السيئة.
لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة وهي مرحلة الجدية والعمل على تنزيل مشاريع المونديال على أرض الواقع، كما بدأت منذ لحظة هذا الإعلان عمليات تنسيق بين السلطات ومسؤولين كرة القدم في البلدان الثلاثة من أجل مونديال تاريخي لم يسبق له نظير.
▪︎ كرة القدم خيار للسلام في بؤر التوترات
هكذا إذا بتحقق حلم استضافة المونديال انبعث طائر الفينيق من رماده مغربيا، ليرسل للعالم بأسره جملة من المعاني والعِبر.
– المغرب أثبت أنه شعب التحدي لا ييأس مهما بلغت ذروة الإخفاقات.
– المغرب، اسبانيا والبرتغال صنعوا ملحمة جديدة في قاموس التاريخ المشترك للمنطقة.
– سيذكر التاريخ أنه في زمن التوترات الإقليمية وصراعات الحدود وما إلى غير ذلك، وضع المغرب وجيرانه الخلافات جانباً في سبيل رقي المنطقة.
– كرة القدم خاصة والرياضة عامة هي رسالة سلام إلى الشعوب والأمم.
لقد كان المغاربة واثقون من أن ظلام الإخفاقات سينقشع وأن شمس الإنتصارات ستشرق يوما ماً لتكافئه على صبره وإصراره.
أجل أيها السادة والسيدات ؛ لقد كان ترشيحاً عبقرياً.
Comments ( 0 )