نهاية الفُرجة و بداية السهرة .
لا بد للفرجة حتى تصبح مشروعاً ثقافياً مؤثراً أن تكون انعكاساً فنياً للوعي والممارسة، وليس مجرد «تنسيق» كلمات وأفكار عقيمة ،كما فعل أحد المهرجين اللذي حاول الركوب على المناسبة و المرأة بسكيتش للفرجة أمام أنظار المكلف بمالية الدولة.
إن الفرجة هي القدرة على خلق اتجاهات وترك ترسبات. وهكذا تصبح الفرجة بالتصرف في مقولة غرامشي : «الأرض التي يتحرك عليها الانسان، يكتسب وعيه, ويحدد موقعه ويمارس نضاله».
قال مكسيم غوركي عن البطل الشعبي الروسي ” بتروشكا”: ” إنه ينتصر على الجميع وعلى كل شيء : الشرطة، والقساوسة، وحتى الشيطان والموت، ويبقى خالداً لا يموت. بع أن جسد الشعب الكادح نفسه في هذه الشخصية الخشنة ووجد انتصاره على الجميع وعلى كل المصاعب.
يُعد “صناع الفرجة” مادة توثيقية لأجيال اليوم، من خلال التعريف بعدة شخصيات من رواد التراث الشفوي والفنون الشعبية، عبر مختلف المناطق المغربية كما فعلت شخصية “عبد الرؤوف” التي جسدها الراحل التونسي، من خلال مساراته الفنية، والتعريف بالخصائص الثقافية المميزة لمختلف الأشكال الفرجوية المكونة للموروث الثقافي الوطني الغني والمتنوع.
لقد صاغ عالم الأنثروبولوجيا كلود لفي شتراوس نظريته “القرابة” ومن قبله العالم النرويجي كارل يونج ما سماه الأنماط البدئية أو النماذج العليا بناءً على ما نسميه القيمة فالتشابه بين الحضارات ناشىء على أساس تلك القيم التي لايمكن أن تختل إلا باختلال الموازين فهي إذن لا متغير في أي بناء اجتماعي فالآخرون ماهم إلا نحن ولكن في صور مختلفة أما القيم المترسخة فهي واحدة ..
ولنا أن نطرح سؤالاً هاماً..
ماقيمة الفنون بدون قيم!
فلقد كانت الساحات من جامع الفنا و و سيدي بوذهب و مكناس مشتلا لصنّاع الفرحة عبر الزمن دون دعم و لا برامج ثقافية، تنشر الوعي و تتغنى برضى الوالدين و الشهامة ،يؤثرون في ركاب الحافلة العمومية و يعم الصمت الإرجاء لتلقي درس في الحياة مقابل القليل من الجود و دراهم معدودة ،مقابل نشر الوعي في قالب فُرجوي ينسي هموم الدنيا.
فما جدوى أن نبتكر أشكالاً للدمى والعرائس وهي
لاتروج لقيمة أو تصنع وعياً؟!
دمية بونوكيو
ربما أن هذه الدمية هي الأنسب لتوضيح الشكل الحقيقي الذي قدمته فنون الدمى، أحد أشكال الفرجة، لصناعة الوعي.
دمية بونوكيو لها قصة ألفها أحد الروائيين الإيطاليين منذ زمن ولكن هذه الدمية مازالت وستظل محافظة على بقائها رغم كر وفر الأيام ولا يبليها شيء.. رغم صراع القيم .
القيمة الإنسانية في قصة بونوكيو لا متغير بنيوي في أي مجتمع وفي أي عصر وهي ما أعطى للدمية بونوكيو قيمة وحافظ عليها حتى الآن وهو أيضا السبب في بقاء اعمال فنية كثيرة وكتب لها الخلود..
تلك القيمة “تحري الصدق” هي السر وليس الدمية بونوكيو في حد ذاتها.. تماماً كما كانت تتحرى شخصية” عبد الرؤوف” صدقنا بعفويتها و أسئلتها الإستنكارية و تعجبها من الواقع بصيغة فرجوية تصل أوصال القلب.
المحصلة أن القيم البشرية قد يخبو أوارها حين تنعدم روابط تعزيز القيم الإنسانية والتذكير بها للرقي بالوعي الإنساني وصناعته و بونوكيو أحد تلك الروابط لأعظم القيم عبر العصور فكل الأعراف والقوانين والعادات والتقاليد والرسائل السماوية تنبذ الكذب وتستنكر أن يكون الإنسان كاذباً وعندما يختل هذا الميزان ستموت كل الأعمال الفنية حتماً التي تناولت هذه القيمة في فنها..
بونوكيو حكاية رمزية تصنع وعياً وتشرح الجريمة والعقاب للإنسان الذي يكذب آنياً ودانياً.
و هنا كان دور الفرجة الشعبية .. دورها في أن تحول هذه المفاهيم والقيم الجامدة بفعل التأثير المباشر (كأن يكون صانع الفرجة تلميذاً للمُنظِّر أو يكون هو نفسه مُنظِّراً) أو التأثير غير المباشر (كأن يخرج صانع الفرجة في بيئة معينة تحمل هذه المفاهيم فيحولها لفرجة دون الانشغال كثيراً بمصدرها) الى حديث براق لامع يسر السامعين و يخطف الأنفاس و يحقق له الشعبية.. تماماً مثل تحويل الأدب الى سينما .. الى عوالم مرئية وسمعية يسهل للمُتلقي التفاعل معها دون ضرورة تعلمه للقراءة و صرف أوقات طويلة لها .. ان هو إلا فيلم ساعتين يبقى في الذاكرة إلى الأبد..
إن المسرح في بدايته الأولى كان عبارة عن أشكال فرجوية شعبية نابعة من تخوم التجربة الإنسانية، وبالإمكان إعطاء لمحة تاريخية عن أهم الفرجات الشعبية عند العديد من الشعوب، لأن الفرجة تختلف من قطر إلى آخر، وذلك باختلاف عادات كل شعب من الشعوب، وهذا ما دافع عنه “غروتوفسكي” في قوله ” أن المسارح لا تتشابه فيما بينها على مستوى الفرجات وإنما على مستوى المبادئ” ، ومن ثم فكل طقس ديني أو احتفال جمعي يحاول أن يمثل دراميا الأسطورة المرتبطة بالمقدس، ويجعل الوعي به في السلوك والحياة الاجتماعيين بواسطة مسرحته، وبإحياء الطقس واستعادة عروضه الإيمائية التقليدية، يتحول إلى نوع من الاحتفالات، والاحتفالات إلى نمط من الفرجة، وهذا ما تجسده كثير من الطقوس والشعائر الدينية العتيقة، والأشكال الاحتفالية والفرجوية التقليدية التي عرفتها كل المجتمعات الإنسانية و خاصة في فرجة الحلقة بساحات المغرب.
من منظور اوسع
لا فرجة على حساب قيمنا ،قد تتحمل الميوع لكن لن تستطيع المراهنة على قيمك.
Comments ( 0 )