هكذا استقبلت صدور ترجمتي لرواية راقصة الباليه
بقلم الأستاذ حسن المصلوحي
حين تستقر بين يديك نسخة من كتاب قضيت شهورًا تنقّب في مفرداته، وتعيد تفكيك جمله، وتخوض في طبقات معانيه، تدرك أن الترجمة ليست عملًا ذهنيًا فقط، بل شغف يتجلى في لذة الفكر حين يكتب نفسه من جديد.
ذاك ما شعرت به هذا الصباح، وأنا ألمس راقصة الباليه وقد خرجت من رحم لغتها الأولى إلى العربية.
وصلتني نسخ ترجمتي العربية لرواية راقصة الباليه للروائية الإيطالية ماتيلدة سيراو، التي كتبتها سنة 1899.
كتابٌ صغير في حجمه، شاسع في معانيه، ينسج خيوط الجمال والألم، الفن والهامش، الجسد والروح، على إيقاع راقصة باليه تؤدي رقصة لا تنتمي فقط إلى المسرح، بل إلى الحياة نفسها.
لقد راهنتُ، من خلال هذا العمل، على مشروع شخصي يتوخى إعادة الاعتبار للأدب الإيطالي، ذاك الكنز المسكوت عنه في الفضاء الثقافي العربي، والمنزاح عن دوائر الترجمة منذ عقود، لصالح هيمنة مزدوجة للأدبين الفرنسي والأنجلوساكسوني.
فثمة ظلمٌ خافت وقع على هذا الأدب الغني بتجارب إنسانية وجمالية لا تقل عمقًا عن نظيريه الفرنسي والإنجليزي، ظلمٌ آن الأوان لتقويضه عبر إعادة مدّ الجسور مع إبداعاته.
إن فعل الترجمة في هذا السياق ليس مجرد عبور لغوي من ضفة إلى أخرى، بل هو فعل مثاقفة جوهره الحفر في طبقات الفهم والتأويل، ومحاولة إنقاذ النصوص من نسيان مزدوج: نسيان الذاكرة ونسيان اللغة.
الترجمة ليست وسيلة لتوصيل المعنى فحسب، بل هي ضرب من الكتابة الثانية، كتابة تسائل الكاتبَ والمترجمَ في آن، كتابة تمتحن الصبر والخيال، وتستدعي القرب العاطفي والفكري من النص.
لذلك، فإن ما يميز هذه الترجمة أيضًا هو أنها جاءت من كاتب.
وللكاتب حين يترجم عينٌ ثالثة، تتوسل بالحدس لا بالمعجم، وبالنبض لا بالقاموس.
يترجم لا ليشرح، بل ليعيد الولادة من رحم جديد. يترجم كمن يتكلم عن ذاته في مرآة الآخر.
وربما لهذا السبب تحديدًا، شعرت أن راقصة الباليه هي شقيقةٌ لروايتي السابقة الرغيف الأسود، فكلتاهما تحومان حول معاناة الهامش، وتنبشان في جغرافيا الغُصَّة المقموعة، وإن اختلفت الأزمنة واللغات.
سيراو، وهي أول امرأة تؤسس صحيفة في أوروبا، و التي رشحت ست مرات لجائزة نوبل للآداب، كتبت هذا العمل برهافة فنية تلتقط التفاصيل كما تلتقط العدسة لحظة الهروب، وبلغة تحفر في دواخل الجسد الأنثوي المُعرَّض لتجاذبات القمع والرغبة، الفن والكدح، الجمال والخذلان.
راقصة الباليه ليست مجرد رواية، بل هي جسر بين الأدب والفن، بين الصوت والحركة، بين الكلمة والإيماءة.
أشارككم هذا الإنجاز، لا من باب الاحتفاء الشخصي، بل من باب الدعوة إلى إعادة التفكير في مفهوم الترجمة، في آداب الظل، في الهوامش المهملة، وفي الجمال الذي لا يُرى إلا حين نُمعن فيه النظر.
صباحٌ جميل، أستقبله اليوم بكتاب، كما يُستقبل القلب بدفقة حب.
صباحٌ أحتفل فيه بلذة الوجود، بلذة الترجمة، بلذة أن تكون للكتب أرواحٌ تُولد مرتين.
Comments ( 0 )