هل تعود اللغة العربية إلى مجدها لتحتل الصدارة عالميا؟
كانت ولا تزال اللغة العربية هي اللغة الأم أو كما تعرف بـ”لغة الضاد”، رغم تعدد الألسن واختلاف اللغات التي تتبدل مع مرور الزمن ووتيرة الحداثة. هذا التحول لا يقصي أي لغة من خطر الاندثار، لكن اللغة العربية تظل صلبة بطبيعتها، قوية في بنيتها، وبحر من المعاني يسبح فيه كل محب لها. فهي تزخر بمعجم لغوي واسع ومتعدد المستويات، كما ترتكز على قواعد متينة تجعلها من اللغات العصية على الاندثار.
ولعل أبرز ما يلاحظ أن العديد من الدول المتقدمة تعتمد على اللغة العربية في أرشفة بعض وثائقها، نظرًا لغناها ودقتها التعبيرية. هذا إن دل هذا على شيء فإنما يدل على ثباتها وقوتها مقارنة بكثير من اللغات الحديثة، بل وأقدمها وأعرقها من حيث الجذور والتأثير التاريخي.
ومن زاوية أخرى، إذا عدنا إلى التاريخ نجد أن أغلب العلوم الحديثة انطلقت من عقول علماء عرب، كتبت مؤلفاتهم بالعربية قبل أن تنقلها أوروبا وتترجمها إلى لغاتها الخاصة. في المقابل لم يستثمر العرب هذا الإرث كما يجب، بل انشغلوا بتقليد ما تنتجه الدول المتقدمة. ولو توقفنا قليلا عند جذور هذا التقدم لوجدنا أن الحداثة في جوهرها ليست غريبة عنا، إنما خرجت من أرضنا لتستثمر في أماكن أخرى وتبنى عليها حضارات جديدة.
لماذا يعتمد العالم بأسره اللغة الإنجليزية كلغة عالمية؟
في هذا السياق، قد يطرح سؤال محوري: لماذا أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة العالمية؟ الجواب بسيط لكنه عميق في نفس الوقت يكمن في أن أمريكا باعتبارها قوة عظمى اقتصاديا وعسكريا فرضت نفسها على العالم وفرضت معها حتى لغتها. ففي عالم تحكمه موازين القوى، تصبح اللغة انعكاسا للهيمنة الاقتصادية والسياسية. للأسف ما زالت شعوبنا تلهث خلف كل ما هو أجنبي وتمنحه الأولوية بدل أن تفكر في قلب المعادلة وتسعى إلى جعل اللغة العربية في مقدمة اللغات العالمية المتداولة.
قد يبدو هذا الحلم بعيد المنال في اللحظة الراهنة، لكنه ليس مستحيلا في المستقبل. فلو منحنا لغتنا ما تستحقه من اهتمام وتوجهنا بجدية نحو العلوم المتجذرة في حضارتنا وخصصنا موارد حقيقية للبحث العلمي والابتكار وطورنا اقتصاداتنا ووحدنا عملاتنا وسياساتنا لكانت النتيجة مختلفة آنذاك وسنفاجئ العالم بما لم يكن في الحسبان.
أين نحن من الترويج للغة العربية؟
من زاوية أخرى، يطرح تساؤل آخر لا يقل أهمية عن سابقه: لماذا لا نعطي للغة العربية مكانتها بين الأمم؟ ولماذا لا نكون سفراء لها حول العالم مستفيدين من التكنولوجيا الحديثة والتقنيات التعليمية لتقريب اللغة العربية إلى غير الناطقين بها؟ ولماذا لا نستخدمها بكل فخر في المحافل الكبرى باعتبارها رمزا لهويتنا وانتمائنا الحضاري؟
ما نتحدث عنه ليس حلما، بل واقع يمكن فرضه بالعمل الجاد والمتواصل، دعوما باستراتيجيات مدروسة للترويج الثقافي والتعليمي من خلال الإبداع والابتكار، والتفوق في مختلف المجالات. حينئذ نستطيع أن نعيد للغة العربية وهجها العالمي ونفرض أنفسنا كدول رائدة تقيم معها الدول الأخرى الشراكات والاتفاقيات. لما لا؟ قد نصل يوما إلى مجد لا يخص اللغة فحسب، إنما يشمل الأمة العربية بأسرها.
مبادرات لإحياء اللغة العربية
في سياق متصل، لا بد من الإشارة إلى المبادرات المهمة التي ظهرت في السنوات الأخيرة لخدمة اللغة العربية وتعزيز مكانتها. أبرزها “مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية”، و”جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع في خدمة اللغة العربية”، و”جائزة محمد بن راشد للغة العربية”، وهي مبادرات تشكل نواة فعلية لتحولات لغوية عالمية إذا ما تم دعمها بشكل مستدام، على اعتبارها تهدف إلى تعزيز استخدام العربية في التعليم والبحث العلمي والمجال الرقمي.
ولعل أبرز ما يلاحظ أن بعض الدول الأجنبية بدأت تتخذ خطوات عملية نحو تدريس اللغة العربية، كما هو الحال في تركيا التي أدرجت العربية كمادة اختيارية منذ عام 2010، قبل أن تدرس لاحقا في المرحلة الابتدائية. فضلا عن تدريسها في دول إسلامية وغير عربية مثل إندونيسيا، ماليزيا، باكستان، نيجيريا، السنغال، تشاد، إيران، الهند، الصين، وحتى بعض جمهوريات روسيا ذات الأغلبية المسلمة كـتتارستان وبشكيريا كل بحسب خصوصيته الدينية والثقافية.
اللغة العربية بين الواقع والطموح
من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى هذه المؤشرات كمحاولات تمهيدية لجعل اللغة العربية مادة أساسية في المقررات التعليمية العالمية. فهل تنذر هذه الخطوات بعودة مجد لغة الضاد لتكون في صدارة المشهد اللغوي العالمي؟ كلها أسئلة مشروعة تطرح بقوة في ظل الحراك المتنامي وتنتظر إجابات تكتبها إرادة الشعوب وعمل رواد هذه اللغة العريقة.
ختاما، إن اللغة العربية ليست مجرد أداة للتواصل، بل تراث حضاري وثروة ثقافية تربط بين ماضينا العريق ومستقبلنا الواعد. هي لغة الإبداع والبيان والهوية والانتماء تستحق أن تدرس ويتحدث بها العالم بأسره، لما تحمله من غنى لغوي وقدرة على بناء جسور التفاهم بين الشعوب. فالعربية لا تحتاج إلى شفقة أو استجداء، إنما إلى نهضة تؤمن بقدراتها وتفعل طاقاتها الكامنة. فلنكن نحن سفراء ناجحين نرفع رايتها عاليا ونثبت للعالم أن العربية ليست لغة ماضي فقط، إنما هي لغة الحاضر والمستقبل المتجدد.
Comments ( 0 )