السودان: بلد مزقته الحرب

السودان: بلد مزقته الحرب

 

 

 

منذ اندلاع الحرب الأهلية في السودان في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميداتي)، تحولت هذه الأمة الغنية بتاريخها وتنوعها إلى ساحة معركة مروعة، حيث تتفاقم الأزمة الإنسانية يومًا بعد يوم لتصل سنتها الثالثة. وبدخول الصراع عامه الثالث، يعيش السودان كارثة إنسانية غير مسبوقة، تُعد الأسوأ عالميًا بحسب تصنيفات الأمم المتحدة، مع نزوح ملايين الأشخاص، وانتشار الجوع والأمراض، وانهيار النظم الصحية والبنية التحتية، دون أفق واضح للسلام.

 

أرقام مروعة تروي حجم الكارثة

أظهرت الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية أخرى حجم المأساة التي يعيشها الشعب السوداني. فقد نزح أكثر من 12 مليون شخص داخليًا، بينما فرّ حوالي 3.8 مليون إلى دول مجاورة مثل تشاد، مصر، جنوب السودان ، إثيوبيا، وأوغندا، في أكبر أزمة نزوح عالمية. في ولاية الخرطوم وحدها، قُتل أكثر من 61,000 شخص حتى نوفمبر 2024، منهم 26,000 بسبب العنف المباشر.

 

حتى أصبح الجوع يهدد حياة الملايين، حيث يعاني 25 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وتؤكد الأمم المتحدة أن السودان على شفا أسوأ أزمة جوع عالمية. في شمال دارفور، أكدت لجنة مراجعة تصنيف الأمن الغذائي المتكامل (IPC) في صيف 2024 وجود ظروف مجاعة، مع ارتفاع معدلات سوء التغذية التي تحصد أرواح الأطفال بشكل خاص. الأطفال، الذين يشكون العبء الأكبر من هذه الحرب بين الإخوة، يواجهون مزيجًا من العنف والجوع والأمراض، مع حرمان 17 مليون طفل من التعليم، مما يهدد مستقبل جيل بأكمله.

 

انهيار النظام الصحي وتفشي الأوبئة هو الآخر لا يبشر حتى بالرجوع لحكم البشير،وصف وزير الصحة السوداني الحالي، هيثم محمد إبراهيم، الوضع الإنساني بأنه الأسوأ في تاريخ البلاد، مشيرًا إلى انهيار النظام الصحي بشكل شبه كامل نتيجة الحرب. استُهدفت المستشفيات بالقصف الجوي ونيران المدفعية، ونُهبت المخازن الطبية، مما جعل معظم مستشفيات الخرطوم خارج الخدمة. هذا الدمار أدى إلى تفشي الأوبئة، حيث أصبحت الأمراض مثل الكوليرا والملاريا تهديدًا متزايدًا في ظل نقص الرعاية الطبية والمياه النظيفة.

 

العاملون في المجال الطبي يواجهون تهديدات مباشرة، حيث وثقت منظمات دولية استهداف الأطباء والطواقم الطبية، بما في ذلك اتهامات كاذبة بالتعاون مع أحد أطراف النزاع. في إحدى الحوادث المأساوية، قُتل الطبيب آدم زكريا إسحاق و13 مريضًا في مركز إنقاذ طبي في الجنينة في ماي 2023، على يد ميليشيا متحالفة مع قوات الدعم السريع.

 

الرعب و العنف الجنسي وسلاح الحرب:

وسط تعتيم اعلامي يُستخدم العنف الجنسي كسلاح حرب في السودان، مما يفاقم معاناة النساء والفتيات.

وثقت منظمة اليونيسف في مارس 2025 تسجيل 221 حالة اغتصاب ضد أطفال منذ بداية 2024، منهم 147 فتاة و16 طفلًا دون سن الخامسة. تُظهر تقارير منظمة العفو الدولية أيضا أن الاغتصاب والاستعباد الجنسي أصبحا شائعين بعد أيام قليلة من اندلاع النزاع، خاصة في دارفور، حيث تعرضت نساء من الجنينة لانتهاكات مروعة على يد قوات الدعم السريع. هذا العنف، إلى جانب الخوف من الوقوع ضحية له، دفع العديد من النساء والفتيات إلى الفرار، ليواجهن مخاطر إضافية في مخيمات النزوح غير الرسمية ذات الموارد الشحيحة و الغارقة في الأمراض وسط انعدام الأمن الصحي.

 

جرائم الحرب وغياب المحاسبة لا تزال مستمرة، جرائم حرب واسعة النطاق ارتكبها كلا الطرفين، بما في ذلك القصف العشوائي للأحياء السكنية، استهداف المنشآت الطبية، والإخفاء القسري. اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش والولايات المتحدة والمملكة المتحدة قوات الدعم السريع بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في دارفور ضد قبيلة المساليت. كما وثقت الأمم المتحدة اكتشاف مقابر جماعية تحتوي على مدنيين من المساليت، إلى جانب استهداف المحامين، المدافعين عن حقوق الإنسان، والأطباء.

 

على الرغم من هذه الانتهاكات، لا تزال المحاسبة بعيدة المنال. بدأت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات في جرائم الحرب، وأنشأ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لجنة تقصي حقائق في أكتوبر 2023، لكن التقدم بطيء، بسبب تدخلات خارجية وتعقيدات سياسية يفاقمها الوضع الإقليمي بالمنطقة.

 

تُعد الحرب في السودان معقدة بسبب التدخلات الإقليمية والدولية. اتهمت تقارير بأن دولًا صديقة تدعم قوات الدعم السريع، بينما تلقت القوات المسلحة السودانية دعمًا من دول أخرى. هذه التدخلات، إلى جانب انضمام مجموعات متمردة مثل حركة تحرير السودان (عبد الواحد النور) وحركة جيش تحرير الشعب (عبد العزيز الحلو) إلى النزاع، جعلت الحل السياسي أكثر تعقيدًا. محاولات التفاوض، مثل معاهدة جدة في مايو 2023، فشلت في وقف القتال، ولا يزال الجمود السياسي يعيق أي تقدم نحو السلام.

 

نداءات دولية وتحديات الإغاثة

أطلقتها الأمم المتحدة نداءات متكررة لجمع التمويل اللازم لدعم المتضررين، حيث قدرت الاحتياجات الإنسانية لعام 2025 بـ4.2 مليار دولار، إضافة إلى 1.8 مليار دولار لدعم اللاجئين في الدول المجاورة. لكن نقص التمويل يهدد بتفاقم الأزمة، حيث حذرت اليونيسف من حرمان ثلثي أطفال اللاجئين من التعليم الابتدائي، ويعاني 4.8 مليون لاجئ من انعدام الأمن الغذائي.

 

عمال الإغاثة يواجهون مخاطر جمة، إذ أصبح السودان من أخطر البلدان لهم بعد جنوب السودان، مع تقارير عن استهدافهم واتهامهم بالتعاون مع أطراف النزاع. كما تُعرقل القوات المتحاربة وصول المساعدات الإنسانية، مما يشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي.

 

الصورة الأكبر: مستقبل غامض وسط الأمل الباهت.

 

مع دخول الحرب عامها الثالث، يرى المحللون أن الحل العسكري لن ينهي الأزمة، مشيرين إلى فشل قوات الدعم السريع في تحقيق أهدافها الأولية بالسيطرة على السلطة. اقترح البعض دمج قوات الدعم السريع في جيش وطني موحد، مع إصلاحات شاملة وحوار سوداني شامل، لكن هذه الحلول تبدو بعيدة في ظل استمرار القتال وغياب الثقة بين الأطراف.

 

في خضم هذه الفوضى، يظل الشعب السوداني محاصرًا بين الجوع والعنف وانعدام الأمان. تصف منسقة الأمم المتحدة في السودان، كليمنتاين نكويتا-سلامي، الوضع بأنه “يائس”، داعية المجتمع الدولي إلى عدم نسيان السودان. لكن مع استمرار الصراع وتفاقم التدخلات الخارجية، تهدد وجوده ذاته لانه تمزق.

 

 

Share
  • Link copied
Comments ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (Number of characters left) .