المسرح والفكر العربي المعاصر: “مسرح سعد الله ونوس أنموذجا”

سعد الله ونوس

المسرح والفكر العربي المعاصر: “مسرح سعد الله ونوس أنموذجا”

 

نشأت الحاجة إلى التفكير منذ العصور الأولى، وذلك بغية الإجابة عن عدة أسئلة حول الوجود والأصل ومعنى الواقع، بٱعتبار الإنسان كائن له القدرة على الملاحظة المباشرة للطبيعة وقدرته أيضا على التفوق والتأثير، وبهذا جاء الفكر اليوناني القديم بسلسلة من التعديلات التاريخية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، بٱعتبار الفن هو الوسيلة والأداة التي تنير طريق الشعوب والحضارات، وبٱعتبار الفن هو الطريق الصحيح نحو نشر فلسفة الجمال وقيم الخير ومسرات المعرفة، وبهذا إرتبط مفهوم الفكر بالفن مند الولادة الأولى للإنسان القديم، فلولا الفكر لما وجد الفن فكلاهما يمهدان الطريق إلى المطلب الإنساني، إذ لا يمكن فصل الفن عن الفكر أو الشكل عن المضمون، وهذا ما جاءت به الدراما الغربية منذ نشأتها عند الإغريق وحتى يومنا هذا، بحيث وضع أريسطو أصول فلسفية عميقة ولها أثر فعلي، بحيث أسس لنظريات درامية في محاولة منه لكشف وتفسير أسباب هيمنتها على الفكر الدرامي الغربي ليمتد إلى العربي أيضا حتى بدايات القرن العشرين .

ففلسفة الفن عند أرسطو جاءت على هذا الأساس وهو التفكير في التاريخ البشري والبحث عن أهم اللحظات وأقواها. فالتفكير الفلسفي في الفن هو بالتحديد تفكير في كيفية تكون العمل الفني وفي معايير فنيته، فكانت التجربة الفكرية الإغريقية دليل على هذه العلاقة بين الفكر والفن من خلال نموذجين جاء بهما أرسطو وهما: الشاعرية والمحاكاة، ولعل هذه الأخيرة تعتبر تحليلا عميقا لكيفية نشوء إرادة الإبداع لدى الفنان من خلال ٱستلهامه لنموذج ما سواء كان نموذجا عينيا ملهما، أو نموذج فعل الإبداع.

بالإضافة إلى نموذج هيغل وهو نموذج حديث كان له الأثر الفعلي والبالغ في مسار الفكر الفلسفي البشري وذلك عبر محاولته جعل الفن علما له أسس وقواعد ومناهج، إذ جعل من الفن فنا مستقلا بمفاهيمه وفرضياته وبٱعتباره تصورا يجمع بين خصوصية الجميل وبين طابعه الفني الملازم له.
إن غاية الفن عند أريسطو أخلاقية وتربوية وتعليمية بحيث سعى إلى إستثمار الفنون في التنشئة الإجتماعية وكل ماينمي إمكانات العقل ويطورها، بالإضافة إلى تهذيب النفوس والأذواق واللذات الحسية، فحين أن فلسفة هيغل تعتبر أن كل عمل يقدم شيئا من الجمال فهو عمل فني بالضرورة.
وبهذا تتحقق العلاقة بين الفكر والفن إذ لا يمكن الحديث عن هذه العلاقة دون ربطهما ببعضهما البعض منذ الولادة الأولى للتفكير البشري القديم، وبهذا توالت عدة نماذج فنية غربية وعربية جعلت من إبداعاتها مشروعا فكريا يحمل عدة رسائل وطموحات وأفكار تعكس الظروف التاريخية والإجتماعية التي تعرفها المجتمعات الحديثة.

سعد الله ونوس الكاتب المسرحي والمفكر الحر

ولد سعد الله ونوس المسرحي السوري في 27 مارس 1941، وهو من مواليد قرسة حصين البحر الساحلية القريبة من مدينة طرطوس، ويعتبر من الكتاب القلائل الذين تميزت أعمالهم بفن الكتابة للمسرح وأصبح إسمها مدارس يتسابق فنانون كثيرون في تجسيدها على خشبات المسارح، إشتهرت أعمال سعد الله ونوس وترجمت لعدة لغات ونالت عدة جوائز عالمية، إذ عكست أعمال ونوس ظروف ظروف العالم العربي التي عاشها هو نفسه، من ضعف وتفكك وٱنتكاسات… وبكتاباته عبر سعد الله ونوس وبدون مواربة عن فكره اليساري التنويري.

جاءت كتابات سعد الله ونوس كلها حاملة لمشروع فكري إنساني، إذ أبدع في كتاباته عن هموم الإنسان العربي وقضاياه المجتمعية بحيث كان غرضه أن تنهض الأمة العربية وأن يكون لها مشروعا فكريا نهضويا بحث ألف العديد من المؤلفات أبرزها مسرحية حفلة سمر من أجل خمسة من حزيران عام 1968، وسهرة مع أبي الخليل القباني عام 1973، ومنمنمات تاريخية عام 1994، وطقوس الإشارات والتحولات عام 1994، والأيام المخمورة عام 1997، وغيرها من الكتابات التي عرت الواقع السياسي العربي وكشف اختلالاته، كاشفا من خلالها مشاكل السلطة السياسية والدينية وغيرها من المواضيع التي تطرق من خلالها في مسرحياته .

كان سعد الله ونوس إنسان ثائر على كل شيئ، حاملا قضية شعبه والشعوب العربية كلها، وإنطلاقا من هذا الفكر والتاريخ والجغرافيا ٱنطلق مسرح سعد الله ونوس اليساري التوجه، فهو من أكثر كتاب المسرح حساسية في إتجاه القضايا العربية، إذ كان همه الوحيد من مجتمعه العربي هو أن ينهض وتكون قياداته نهضوية.

إن مسرح سعد الله ونوس لم يكن مسرحا مرتاحا ومترفا أو كاذبا أو ملفقا، بل كانت كتاباته المسرحية جادة في قضاياها الفكرية إذ عرت وبشكل حقيقي الواقع السياسي العربي ومسرحيته الشهيرة حفلة سمر من أجل خمسة من حزيران دليل على مدى عبقرية ونوس ومدى حسرته على حال العرب، إذ كتبها مباشرة عقب نكسة 67، منتقدا من خلالها هزيمة العرب وقادتهم، كرد قاسي على الهزيمة ولقت المسرحية نجاحا واسعا أنذاك بفعل قوة الطرح والمضمون وكذلك بفعل التقنيات الدراماتورجية التي وظفها في مسرحه، وتجلى ذلك في إشراك المتلقي في العملية الإبداعية متأثرا ومنفتحا على فلسفة الكاتب الألماني برتولد بريشت، وذلك من خلال تكنيك تكسير الجدار الرابع.

لم يكن ٱختيار سعد الله ونوس هذا التكنيك مجانيا ولكن اختاره ليتم الحوار بين الطرفين أي الجمهور والممثلين حتى يعطي للعرض المسرحي والثقافة المسرحية والحدث المسرحي وموضوع العمل المسرحي قيمته الإجتماعية، فحاول سعد الله ونوس من خلال مسرحيته حفلة سمر من أجل خمسة من حزيران أن يقدم لوحات غير مكتملة ليحث المتفرج على المشاركة في بناء هذه اللوحات أملا في المتفرج العربي أن يدلي بدلوه في فهم ما يدور في أحداث المسرحية وبالتالي المشاركة في العملية الإبداعية، إلا أن الخطاب بقي أحاديا من جانب الممثلين فقط بٱعتبار الجمهور لم يكن مسيسا جماليا وثقافيا.
طالب سعد الله ونوس وفي عديد من خرجاته الإعلامية بالديمقراطية والعدالة الإجتماعية وبالجمهور الحر والمسرح الحر، إذ من خلالهما تنبثق الأسئلة الجوهرية الحرة، كأسئلة الحرية والمصير والمجتمع، وغيرها من الأسئلة الجادة التي تحرر الإنسان وتعرفه بذاته كإنسان وبدوره في مجتمعه وبمكانته وهذا كله لا يمكن تحقيقه إلا في وجود الديمقراطية.

المسرح السياسي ومسرح التسييس عند سعد الله ونوس

يعتبر سعد الله ونوس أحد أهم وأبرز الكتاب الدراميين للمسرح، الذين كرسوا حياتهم للمسرح تأليفا وإخراجا وإدارة، وحملوا أعباء تأصيل المسرح العربي من خلال الأبحاث الدؤوبة والتجريب المستمر، ومواكبة القضايا الشائكة، وأيضا يعتبر من أهم الكتاب المسرحيين الذين حملوا هموم وألام وقضايا الشعوب العربية، لقد عاش سعد الله ونوس أحداث بلاده سوريا على الصعيد الوطني أو القومي، بكل أحاسيسه ومشاعره وتفاعل معها مما ٱنعكس على تكوينه النفسي والجسدي، وذلك بسبب حرقته على حال الشعوب العربية، كما ٱنعكس على حسه الفني قلقا وإبداعا، وإذا كان يوسف إدريس قد أطلق في دعوته إلى مسرح عربي ينطلق من التأصيل والرجوع إلى التراث العربي، فإن سعد الله ونوس ٱنطلق من الدعوة إلى مسرح التسييس، فإلى أي حد يتمظهر التسييس في مسرح سعد الله ونوس.

يعتبر سعد الله ونوس أن الفرق ينشأ بين المسرح السياسي ومسرح التسييس في مفهوم المسرح، إذ يعتبر ونوس أن أي مسرح فهو مسرح سياسي كيفما كان نوعه وشكله، حتى وإن كان لا يهتم بالسياسة فهو في عمقه وجوهره مسرح سياسي، مشيرا إلى أن الأدب والمسرح والفن عموما محكوم بأن يكون ذو مغزى سياسي، مشيرا ونوس أن من بين ما أنجب الأدب الغربي كمسرحية أنتيجونا مثلا وعند العرب أيضا كمسرحية بيجماليون لتوفيق الحكيم رغم أنها مسرحية ذهنية أيضا هي مسرحيات سياسية، وإذا كان كل مسرح سياسي فقد نواجه سؤالا مهما وأخطر وهو أي مسرح سياسي نريد؟ ولمن ؟ هل نريد مسرحا تقدميا يخاطب الجماهير العريضة ويحاورها ويحرضها على التفكير بواقعها ومستقبلها ومصيرها؟ أم مسرح كاذب يغطي من وراءه الخطاب التنويري الذي يدفع بالجماهير إلى المشاركة في العملية الإبداعية؟

إن كل عملية تسييس للمجتمعات حسب سعد الله ونوس فهي في محصلتها العامة تقدمية، لأن الأنظمة القمعية، والأنظمة المستغلة هي وحدها التي يكون لها مصلحة جذرية في أن يكون المجتمع غير مسيس أو غير قادر على التفكير السياسي الذي يعيشه، لأن مسرح التسييس هدفه هو دفع المتفرج إلى التفكير في مشاكله بصورة عميقة وجذرية ويواجه إمكانية مواجهة الواقع بصورة جذرية أيضا وعميقة، مدافعا سعد الله ونوس عن المسرح الجاد الذي ينير العقول والذي يفتح الأسئلة للجمهور للتفكير بمصيره كإنسان أولا وبإيقاض الوعي لدى المتفرج لتغيير الواقع.

البعد السياسي في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”

المسرحية تحكي قصة ملك مستبد وظالم له فيل مزعج أطلقه في المدينة فراح يخرب بيوت الناس ويقتل بعضهم دون أن يجرؤ أحد على وقف أذاه، وجاءت المسرحية مقسمة وموزعة على أربعة لوحات أو مشاهد وهما:
1: اتخاذ القرار
2: التدريبات
3: أمام قصر الملك
4: أمام الملك
وهي مسرحية سياسية كتبها سعد الله ونوس عام 1969 بعد عامين على نكسة يونيو 67، إذ سلط الضوء على الجانب السياسي المظلم في العالم العربي عامة وفي بلده سوريا خاصة، فقد ركز سعد الله ونوس جل ٱهتمامه على طريقة الحكم وكذلك الأنظمة السياسية الحاكمة التي تتولى زمام الأمور فجعل سعد الله ونوس من المسرحية إسقاطا أو تمثيلا فعليا للواقع العربي كما يجري في الحياة اليومية السياسية، إذ أن في مسرحيته “الفيل يا ملك الزمان” نجد جملة من المعايير والأحكام السياسية التي حولها سعد الله ونوس إلى رموز جديدة ليجعل المتلقي أو القارئ لها مشاركا في فهم أهداف وغايات المسرحية.

فالملك في المسرحية يشير إلى عدة دلالات تصب في تيار واحد والمتمثل في كونه صاحب القرار الأول والأخير، وصاحب التاج والصولجان، بٱعتباره يمثل الطبقة الحاكمة والسلطة العليا وهو صاحب النفوذ والأملاك على عكس رعيته التي تعيش القهر والحرمان والفقر والبؤس، ليس هذا وحده بل زادهم الأذى والشر من خلال تربيته وإعتناءه ب”فيل” ضخم داخل المملكة منتهجا من خلاله سياسة التخويف والترهيب ليحقق أهدافه وغاياته.
إختار سعد الله ونوس الفيل كدلالة رمزية واعية لحجم الظلم، فالفيل بصفته حيوان ضخم وباعتباره حيوان ذو حجم كبير لا يقدر أحدا على مواجهته، كلها دلالات تدل على حجم القهر والظلم والجبروت والفساد والطغيان والإنحلال الأخلاقي التي تتميز به السلطات والأنظمة القمعية العربية، فالفيل استخدمه ونوس كرمز اللامبالاة من طرف الحاكم إزاء شعبه.

إلا أنه في المقابل نجد شخصية زكريا وهو رمز للطبقة الواعية بالفكر التحرري الذي يؤمن بالإنتفاضة ورفض قيود العبودية والإستغلال، والقادرة على مواجهة الظلم في ظل وجود الجماعة، فشخصية زكريا استخدمها ونوس في مكافحة كل أشكال الخوف وقلة الوعي،
زكريا : ويوما بعد يوم ستزداد الضحايا وتكبر المصائب .
زكريا : يمص دمنا المزرق والحالة من يوم إلى يوم تسوء…
زكريا : نذهب جميعا، ونشكوا أمرنا للملك…
زكريا : كل الملوك يحبون فيلتهم غير أنهم يبالغوا في تصوير الأمور…”
ليسلط الضوء سعد الله ونوس الضوء لنقطة البراءة والشفافية والعفوية والسلام في المسرحية من خلال رمز الطفلة الصغيرة الباحثة عن أجوبة تشفي غليلها وتشبع فضولها وحيرتها، فهي بعقلها الصغير لم تستوعب خبث الأخر الأكبر منها سنا والمسبب لكل هذه المشاكل، فقد رمز من خلالها ونوس إلى فسحة الأمل والصورة النقية الصافية التي يذهب تفكيرها إلى مستقبل مشرق ومنير .
«الطفلة : أمي … ولماذا دهسه الفيل … » .
الوالدة : من يعرف إبنتي … نصيبه
الطفلة : ألن يعاقبوه ؟!
الوالدة : يعاقبون من ؟! » .
جسد سعد الله ونوس إحدى المنارات التنويرية المرموقة في البلاد العربية، وتشهد على ذلك أعماله المسرحية المميزة في الإبداع المسرحي العربي بفضل إسهاماته المسرحية الحداثية التي أراد من خلالها بناء مشروعا نهضويا عربيا مبنيا على الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والحرية وغيرها من المواضيع والأسئلة الحادة التي حملت فكرا تنويريا عربيا، إذ ستبقى أعمال سعد الله ونوس الذي غادرنا في 15 ماي 1997 بعد صراع مع المرض خالدة في سماء الإبداع الدرامي و الأدب العربي، إذ يذكرنا بشهداء الأدب الكبار كبوشكين وبيسكاتور وبريشت ومحمود دياب وغاستون باشلار وأغوستو بوال وغيرهم من الأدباء والمفكرين والمسرحيين الذين ضحوا من أجل شعوبهم ومن أجل الحرية والعدالة والدينقراطية .

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)