تقرير | كيف انطفأ المصباح؟ وما سر الإنتصار الكبير لأخنوش ؟

كريم اخنخام

لم يكن أكبر المتشائمين ليتخيَّل ما حلّ بحزب العدالة والتنمية في انتخابات الثامن من شتنبر 2021، حتى أخنوش بنفسه، لم يكن ليتوقع أن البيجيدي سيُخفِق بهكذا سيناريو، فالخسارة المدوية ليست في الوصول إلى الولاية الثالثة على رأس الحكومة، بل الفشل في الحفاظ على موقع بين الأحزاب الأكثر حضورا في مجلس النواب.
لقد تقوقع العدالة والتنمية في المرتبة الثامنة، أي في ذيل ترتيب الأحزاب التقليدية المتنافسة، إثر حصده 13 مقعدا فقط، في مفاجأة من العيار الثقيل بعد أن حاز في الولاية السابقة على 125 مقعدا، خوَّلت له تشكيل الحكومة للمرة الثانية على التوالي.

حتى بنكيران رئيس الحكومة السابق والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، الذي خرج بوجه مُتجهِّم وقلِق في بث مباشر على صفحته عبر فيسبوك، حذر فيه المغاربة من مغبة الوقوع في المحظور خلال الاستحقاقات الانتخابية الحالية (8 شتنبر 2021). لم تكن كلماته اعتباطية، ولم تكن خرجته في إطار الدعوة للتصويت على حزبه، بل كانت خرجة كرامة، حاول من خلالها الظهور في صورة المدافع عن أحزاب “الشعب” ضدا في الأحزاب “الإدارية”، لذا فضَّل التركيز على انتقاد خصمه السياسي “عزيز أخنوش”، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار الذي عيَّنه الملك مؤخرا رئيسا للحكومة، فهو كان يعلم علم اليقين أن العدالة والتنمية سيدخل الاستحقاقات الانتخابية بسلسلة من خيبات الأمل وعشرات المواقف السياسية السلبية التي راكمتها حكومة “المصباح” ونالت بشكل كبير من شعبية الحزب.

السقوط الحر

بدأت الحكاية مساء السابع من أكتوبر 2016، عندما تصدر حزب العدالة والتنمية الإنتخابات، فحلَّت الأفراح واصطفَّت قيادات الحزب خلف أمينها العام عبد الإله بنكيران حينها، لإعلان فوزها بالانتخابات التشريعية بمقر الحزب بالرباط، حتى قبل الإعلان الرسمي لوزارة الداخلية المغربية، الأخيرة التي اتهمها بنكيران آنذاك بفرملة الحزب وحرمانه من اكتساح الانتخابات، ومساعدة منافسه حزب الأصالة والمعاصرة بدعوة الناخبين خارج أماكن الاقتراع إلى اختيار حزب “البام”. وهي الإتهامات التي رفضها “محمد حصاد”، وزير الداخلية المغربي السابق، في خرجته لإعلان فوز العدالة والتنمية بالانتخابات. 
لم يكن بنكيران ورفاقه يدرون أن تلك الندوة السعيدة، ستليها الكثير من الأحداث التي ستنسف الفرحة في معسكر “البيجيدي”، فقد تبعتها مباشرة حملة تنسيق بين جملة من الفاعلين السياسيين ضد بنكيران، ليفرز لنا ما عُرِف بـ “البلوكاج” الشهير، الذي أطاح ببنكيران، ليخلفه العثماني على رأس الحزب والحكومة، راضخا لشروط باقي الحلفاء القاسية، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الإنهيار.
قبل هذا الانهيار الصادم، كانت العديد من المؤشرات، تشير إلى ما سيقع، بداية من دخول الحزب مرحلة الفراغ الساسي، بدون قيادات حقيقية، وتواري عبد الإله بنكيران عن الأنظار، وهو الذي كان قادراً على مخاطبة الشعب بلغة يستمع إليها بإمعان شديد، وهو ما تابعه الجميع في مهرجاناته الخطابية قبل انتخابات 2016، والتي جعلت الخصوم قبل الأصدقاء متيقنين من نجاحه، فكان دوره مركزيا في تلك المرحلة، وجعلت حزبه ينال ثقة الشعب للمرة الثانية تواليا.
ليس هذا فقط، فقد بدى واضحاً أفول شعبية العدالة والتنمية خلال فترة الحملة الإنتخابية، بداية من تعرض عدد من قيادات ومرشحي الحزب البارزين، كسعد الدين العثماني رئيس الحكومة السابق، وإدريس الأزمي رئيس المجلس الوطني للحزب، للمضايقات وللإستهجان، ووصلت الحدة في بعض الأحيان إلى الضرب والسب والقذف من طرف عدد من المحتجين الغاضبين.سلوكات لم يحسن الحزب احتواءها لصالحه، وبدى تقليديا في مقاربتها، بعد أن عبّر مرارا عن غضبه منها، واعتبرها أساليب ترهيبية يموّلها المنافسون عن طريق استئجار “البلطجية”، وهو ما أظهر للمحللين والخبراء السياسيين أن الحزب الذي كان بالأمس القريب، مثالا يحتذى به في القيادات والكفاءات، أصبح يعاني من أزمة قيادات حقيقية.

أزمة مواقف وخيانة الثقة

لم تكن الأمور التي أتينا على ذكرها، سوى مؤشرات وإشارات على أزمة عنيفة قادمة على صورة الحزب السياسية، ولم يحسن التقاطها كما يجب.أما أسباب السقوط الحقيقية، فقد تنوعت بين أسباب داخلية وأسباب خارجية، مرتبطة أساساً بدور الحزب في الملفات الكبرى بالمغرب أثناء السنوات القليلة الماضية.
داخليا؛ فقد تسبَّب إعفاء جلالة الملك لعبد الإله بنكيران عام 2016 من رئاسة الحكومة بعد “البلوكاج” التاريخي، في انقسام كبير داخل قلاع الحزب.الإعفاء الذي استوجب تعيين العثماني رئيساً للحكومة، ليخضع بعد ذلك لشروط رفضها بنكيران لتشكيلها في السابق، رغم كل الضغوطات التي مارسها هذا الأخير، ولتوحيد الجبهتين تمت الإطاحة ببنكيران من رئاسة الأمانة العامة لحزب “المصباح” أيضا.
أدّى الانقسام الداخلي بين مؤيدي بنكيران والمساندين لتوجه العثماني الجديد، إلى التأثير على قدرة الحزب في مواجهة التحديات الكبرى التي كانت تنتظره، والتي تمثَّلت في ثلاثة ملفات أساسية، شكلت المنعطف الرئيسي الذي سحبت من خلاله أطياف كبيرة من الشعبب المغربي الثقة من حزب “لامبا”، وهي الملفات الشائكة التي اتخذ فيها الحزب مواقف جريئة “نعم”، لكن منافية تماماً لمبادئه ولتوجهاته.
الملف الأول، فقد فيه الحزب رصيدا ضخما بعد سماحه بتمرير قانون “فرنسة التعليم” الذي يقضي بتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية بدلا من العربية، رغم قدرة فريق الحزب البرلماني على منعه، ثم تعاظمت المشكلة بعد دخول الوجوه البارزة داخل العدالة والتنمية في معارك تبريرية لمشروع “تقنين زراعة مخدر الكيف”، قبل أن يجهز على آخر ما بقي في جعبته، بقرار عودة العلاقات بين المغرب وإسرائيل، رغم أن الأمر فوق طاقة الحكومة، إلا أنه كان ضربة قاصمة لشعبية حزب طالما جهر بتوجُّهاته الإسلامية، ولمواقفه المبدئية بخصوص القضية الفلسطينية.

النقطة التي أفاضت الكأس؛ “عفى الله عما سلف”!

التغير الكبير في المواقف السياسية للبيجيدي لم يكن السبب الحصري لسقوطه، فثمة أسباب أخرى ساهمت في هذا الخروج المفاجئ من الباب الخلفي بعد ولايتين على رأس الحكومة، يأتي في مقدمتها تراجع العدالة والتنمية عن توجهه الأساسي الذي أتى به عام 2011، وبوّأه ثقة المواطنين، وتعهَّد فيه بمحاربة الفساد والاستبداد، قبل أن يعود بعد ذلك بجملة “عفى الله عما سلف”، هذا التراجع الكبير في حدة الخطاب، اعتبرته “آمنة ماء العينين”، وهي أحد أبرز الوجوه النسائية داخل الحزب، سبب هذه الهزيمة المدوية، وذلك في تدوينة لها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أكدت فيها أن الناخبين شعروا بتخلي الحزب عن المعارك الحقيقية وعن دوره السياسي حيث طغى عليه التردُّد والصمت والانسحاب السلبي، في معظم الأحيان.
 صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الشهيرة، سلّطت الضوء في تقرير لها حول الانتخابات المغربية على نفس الجزئية، وأوضحت أن المغاربة الناخبين لمسوا أن حزب العدالة والتنمية لم يَعُد يملك الكلمة فيما يتعلَّق بالسياسات الكبرى، وأشارت الصحيفة إلى أن فترة الأزمة الصحية جرَّاء انتشار وباء كورونا، أكَّدت للجميع أن الحزب “الإسلامي” لا يملك أي سلطة قرار، لأن جميع القرارات والتوجهات المُتعلِّقة بالشأن الاقتصادي والصحي، كانت تصدر حصريا من طرف الدولة، في حين جلس العثماني وحزبه، يشاهدون مثلهم مثل باقي الشعب، ينتظرون القرارات لتطبيقها.

08 شتنبر 2021 ؛ التصويت “العقابي”

 لقد أدى حزب العدالة والتنمية فاتورة تخبطاته غالياً، بعد أن خسر نسبة ساحقة من المُصوِّتين الذين وثقوا فيه، بمختلف شرائحهم.
فالمحافظون من الإسلاميين الذين دعموا حزب “المصباح” في انتخابات 2011 و2016، انطلاقا من قناعتهم الفكرية، وانسجامهم مع معركة الحزب الإيديولوجية التي خاضها ضد أحزاب الإدارة كما يسميها بنكيران، وفي مقدمتها حزب الأصالة والمعاصرة آنذاك. لم يستسيغوا تغير مواقف العدالة والتنمية الفاضح عقب الإتفاق الثلاثي الموقع بين المغرب، أمريكا واسرائيل، بالدرجة الأولى، وقبله موقفه فيما يتعلَّق بفرنسة التعليم وتقنين استخدام الكيف.
 أما الطبقة الوسطى التي اصطفت سابقاً مع حزب العدالة والتنمية، ورأت في تيار الخلاص سياسيا، والحزب المنشود، عكس باقي الأحزاب، وقد أملت فيه تحقيق التغيير والاستفادة من موجة الربيع العربي التي انطلقت عام 2011، قبل أن يصطدموا بواقع آخر بعد ذلك. شأنهم في ذلك شأن الفئات الهشة التي انتخبت الحزب سابقا، بسبب وعوده بتحسين حياة الناس، لكنها سرعان ما أنهكتها الأزمات الاقتصادية خصوصا أثناء الجائحة، وفي حين أنها لم تلمس أي رغبة حقيقية لدى الحكومة في مساعدتها، فإنها رأت في المقابل الدعم الكبير الذي قدَّمه الحزب الحاكم للشركات الكبرى إبان “حرب المقاطعة” التي أقدمت عليها شريحة مهمة من الشعب المغربي احتجاجا على الغلاء وسوء الجودة.

إعادة ترتيب الأوراق

مباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات، خرج عدد من قيادات الحزب الإسلامي من المعارضين لسياسات العثماني للعلن للتعبير عن غضبهم وخيبتهم من النتيجة “المُذِلَّة” التي حقَّقها حزبهم، وتقدم المحتجين الأمين العام ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، صاحب الشعبية الجارفة، الذي طالب العثماني بتقديم استقالته بسرعة، مُحمِّلا إياه رفقة قيادته مسؤولية النتائج الكارثية التي حقَّقها الحزب، وهو نفس ما ذهبت إليه، القيادية آمنة ماء العينين، عندما دغعت العثماني لتقديم استقالته، مُعتَبِرة أن القيادة الحالية أصغر من الحزب ودون تطلُّعاته، مُتهِمة العثماني بتبني منطق إقصائي حديدي داخل الحزب. وأضافت القيادية في تدوينة أخرى، أن زمن الإسلام السياسي ولَّى، داعية إلى إعادة قراءة فكر الحزب ومراجعته لأن الجيل الحالي لديه طموحات تختلف عن الجيل المؤسِّس للحركة السياسية الإسلامية بالمغرب.

مصائب قوم عند قوم فوائد

لقد أحسن عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، استغلال عثرات خصمه السياسي حزب العدالة والتنمية، طيلة الفترة الحكومية الماضية، وبدى ذكيا في طريقه نحو تحقيق هدفه المنشود برئاسة الحكومة المغربية. أخنوش الذي اشتغل على تحسين صورته لدى المغاربة، والتي تضررت بشكل كبير إبان فترة المقاطعة، ثم بروز بعض الملفات “المحروقات”، والتي لم تنل من عزيمة ابن مدينة تافراوت جنوب المملكة، في طريقه نحو تصدر الانتخابات التشريعية، مقدما دعما كبيراً لصندوق الجائحة في فترة الحجر الصحي لدعم الفئات الهشة، وصولاً إلى تقديم إلتزامات طموحة ومهمة في حملته الإنتخابية.ليُطيح بذلك عزيز أخنوش رفقة رفاقه بالحزب، بآخر حكومة من الإسلاميين في المنطقة، متصدرا الإنتخابات ب 102 مقعداً، وليحظى باستقبال ملكي، جرى على إثره تعيينه كرئيس حكومة جديد للمغرب.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 2 )
  1. Yassine :

    Article pas comme les autres félicitations karim

    0
    • كريم :

      من حسن ذوقك ، شكرا سي ياسين،

      0

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)